استطاع مجدي العفيفي أن يجمع بين كونه كاتبا صحفيًا وكونه باحثًا أكاديميًا ناجحا، فقد كتب رسالة ماجستير أجمعت عليها لجنة المناقشة أنها جديدة في موضوعها وتناولها " لغة الأعماق البعيدة .. فن القصة القصيرة عند يوسف ادريس ".. لقد رسم " العفيفي " صورة يوسف إدريس كفنان قصة قصية بشكل يجعله متجسدًا بيننا، وأدخل لأول مرة منهج دراسة خطاب العتبات النصية في أدب يوسف إدريس بل هو أول باحث يقدم على طرح هذه الرؤية النقدية الأكاديمية. وقدم الباحث أول هذه العتبات، وهي "عتبة العنوان" قائلًا: يعد عنوان القصة عند يوسف إدريس، مفتاحًا ذا دلالة في التركيب النص: ليس على مستوى البناء الخارجي للعمل فقط، بل يمتد حتى البنية العميقة بما يتيح إعادة الإنتاج بالانفتاح على أكثر من القراءة". ويرتبط العنوان بالنص، في خطاب يوسف إدريس ارتباط السبب بالنتيجة حتى ليغدو العنوان بمثابة "نص مختصر يتعامل مع نص مفصل" فيشكل أداة إبراز الخبر داخل النص. ويضيف الباحث: يضع يوسف إدريس بعضًا من عناوين قصصه تمت أسماء شخصية أو ذات كنية، مثل الهجانة "مجموعة من رجال العسكرية"، ومثل "أبو سيد"، و"جمهورية فرحات"، و"أبو الهول". ومن العناوين ما يجمع بين المادي والروحي، أو بين الملموس والمحسوس مثل عنوان قصة "مسحوق الهمس"، و"المرتبة المقعرة"، و"على ورق سيلوفان". ويقول الباحث: تعد الأسماء عتبة هامة لدخول عالم الشخصية الفنية، فثمة قصيدته تضبط اختيار المؤلف لاسم الشخصية باعتبار أنه يسعى وهو يضع الأسماء لشخصياته أن تكون مناسبة ومنسجمة، بحيث تحقق للنص مقروئيته وللشخصية احتماليتها. وقد تأتي تسمية المؤلف للشخصيات تتضمن حكمًا مسبقًا عليها وتقييمًا من المؤلف لسلوكها سواء أكان الاسم يتفق مع صفات الشخصية وسلوكها، أو يتناقص مع سلوك الشخصية وصفاتها بقصد السخرية منها والتهكم عليها. ومن ثم فإن يوسف إدريس يضع أسماءً للشخصيات في كثير من القصص، وأحيانًا يخرج الشخصية بلا اسم مكتفيًا بالضمير أو اللقب أو الكنية أو المهنة أو القرابة. فمثلًا في قصة "نظرة" يكتفي بذكر "الطفلة الخادمة"، وفي قصة "ما رش الغروب" يكتفي بذكر بطل القصة بأنه بائع عرق سوس. وينقلنا الباحث إلى الحديث عن "لغة الشخصية"، قائلًا: تشكل اللغة في قصص يوسف إدريس جزءًا من بنية الشخصية على اختلاف أنواعها وتعدد مستوياتها، وتتجلى في قدرتها على الكشف عن عوالم هذه الشخصيات سواء على مستوى الرؤية فكرًا واتجاهًا وسلوكًا، أو على مستوى الصيغة سردًا ووصفًا وحوارًا. وهناك خمسة مستويات من اللغة في كل مجتمع لغوي متكامل، فهناك فصحى التراث، وفصحى العصر، وعامية المثقفين وعامية المتنورين، وعامية الأميين، ولكل مستوى خصائصه في عالم يوسف إدريس القصصي، هناك لغة الفلاحين، ولغة العمال، ولغة السياسة والسياسيين.....إلخ. ويذكر الباحث: إن لغة يوسف إدريس القصصية تكتسب قدرًا كبيرًا من شعريتها تمارسه من قراءات تأويلية للأصوات والنصوص من جهة، ومما تخلفه من علاقات لم تكن متوقعة بين المكونات من جهة أخرى، ففي قصة "أرخص الليالي" تندفع لغة السارد في لغة الشخصية، بتمثل وعيها وإدراكها من خلال لغة فنية قصصية، تخرج القصة من متوالية أحداث الواقع ليصبح لها وجود جديد، تناغمًا مع قانون الفن. واستخدام يوسف إدريس للغة الحياة اليومية إنما يعتمد على نوعية وطريقة المعالجة، بعيدًا عن الفصل الحاد بين الفصحى والعامية، كخطاب وهمي أكثر منه خطابًا موضوعيًا، ذلك أن "وضع لغة الحياة اليومية هو أنسب الأوضاع جماليًا لتخليق التوتر بين مستويات التعبير الشعري، وإحداث هذه "الثورة المضارعة التي تتميز بها الدراما باعتبارها لغة تصنع حدثًا حركيًا بتموجاتها الصوتية". وعن اقتراب الحدث بالشخصية يقول: ترمم العدسة القصصية ملامح الشخصية المقرونة بالحدث بشكل تفصيلي بل تحرص على تصويرها تصويرًا لا تترك من معالمها شيئًا إلا سلطت عليه الضوء ليمنح الشخصية أبعادها، فتظهر مكتملة القسمات متوازنة السمات مع مكوناتها الفنية والدلالية ارتكازًا على الإيجاز، فيتجلى إنجاز الرؤية بقربها وبعدها متناغمة في صدقها الفني ومصداقية الخبر والموضوع بالذات، مثلما يبدو في شخصية بطل قصة "لغة الآي أي" حيث تتسم بتعدد أبعادها، وتشابك نسيجها القصصي، فلا تمنح للمتلقي دفعة واحدة، وإنما تظهر من خلال الحدث الذي تقترن به في الخطاب والحكاية. ويضيف: يتجسد الصراع الذاتي والقيمي والأخلاقي داخل الشخصية الواحدة من خلال الفعل الخارجي والتوتر الداخلي على حد سواء في أجواء شخصية الشيخ عبد العال بطل قصة " أكان لابد لي أن تضيء النور"، يبدأ الحدث لحظة اكتشاف جموع المصلين عدم وجود الإمام، فقد تركهم ساجدين في الركعة الأخيرة من صلاة الفجر، وتسلل عبر النافذة الملاصقة للقبلة ليدق غرفة "لي لي" موافقًا على أن يعلمها الصلاة في درس خصوصي بعد أن اتخذ موقف الرفض في البداية، لكنه يفاجأ بالرفض منها بل تطرده. تكثف إحباطات هذه اللحظة المروعة أزمة الشيخ عبد العال لتتشعب مسارات الحكاية فتنكشف ملامح شخصية بأبعادها الاجتماعية والثقافية والجسدية. لم يحكم المؤلف قبضته على الشخصية فلم يوجهها، ولم يتدخل في مساراتها فيسيرها كما يريد، بل خضعت هي لطابع الحدث، وتركها تعرض ما حدث لها مباشرة وبلا وسائط، ووضع المسرود له في مواجهة الحدث والشخصية، واكتفى الكاتب باختيار المكان والزمان اللذين عاشت فيهما الأحداث. ويرى مجدي العفيفي : أن يوسف إدريس أوسع لعالم الطفل والطفولة مساحة تتحرك فيها عشر قصص، معظمها تجعل من الطفل شخصية مركزية في الخطاب، وبعضها يحمل إشارات دالة على وجوده كعنصر مؤثر في بناء القصة وكعامل محوري في هيكلها، وهي قصص تتكشف دلالاتها في اهتمام يوسف إدريس بعالم الطفولة والصب باعتبارها عالم البراءة، والتشكيل والتأسيس ويصورهم من خلال أزمات تتغشاهم منهم، ويصور الطفلة الخادمة مجهولة الاسم، من خلال صورة مأزومة يعرضها في قصة "نظرة" تعاني من القهر إلى درجة حرمانها حتى من النظرة إلى أقرانها وهم يلعبون في الحارة تحت وطأة الحمل الثقيل على رأسها، وهي ذاهبة بأمر ستها إلى الفرن. وتبدو أزمة الطفل فتحي في قصة "رمضان" ابن العاشرة من عمره، في سخطه على الرجال الكبار وعلى والده بنوع خاص لأنه يريد أن يصوم شهر رمضان، لكن والده يرفض فلا صيام لمن لا يصلي، وحين وافق أهله أن يصوم أفطر لعدم قدرته على تحمل الجوع والعطش، ولكن المصيبة الكبرى أنهم هذه المرة ضربوه وأرغموه على الصيام بالقوة، واضطر فتحي أن يصوم بعد هذا ويواظب على الصيام لا خوفًا من رمضان وبطحاته، ولكن خوفًا من أهله. ويطرح الباحث بين القضايا التي شغلت قصص وأدب يوسف إدريس، فيذكر: تتعدد أبعاد الرؤية الشمولية التي تنظم أعمال يوسف إدريس القصصية وتتسع لتطرح مجموعة من القضايا الاجتماعية والسياسية والإنسانية، أما عن الحرية السياسية، يعبر يوسف إدريس عن موقفه من قضية الحرية في بعدها السياسي في أكثر من مسار، باعتبار أن الحرية هي "حاجة اجتماعية تنشأ من طبيعة المجتمع، وحق اجتماعي قبل أن تكون حقًّا سياسيًا، وتبدو أهمية هذه القضية من خلال حرص يوسف إدريس على تحقيق أصالة الهوية المصرية. وظل يوسف إدريس في كل أعماله القصصية مهمومًا بقضية الحرية الشاملة، فقد تكونت نصوص يوسف إدريس في بنية مجتمعية اجتماعية تاريخية دالة، حيث عاصر فترة قياسية كان المجتمع المصري يعد تشكيله بنيويًا وليس جذريًا، أي أن العلاقات الاجتماعية والقيم كانت قيد التغيير. وفي الختام خلصت الدارسة عبر البحث في البناء الفني في قصص يوسف إدريس القصيرة إلى الكثير من النتائج لعل من أهمها: أن يوسف إدريس اتخذ من فنه القصة القصيرة شكلًا أدبيًا مناسباً لتحقيق رسالته، ويتكئ يوسف إدريس في قصصه القصيرة على الواقعية بمعناها الإنساني العظيم كمنهج للتشكيل الفني المناسب لرؤاه. وأكدت الدراسة أن التجريب لدى يوسف إدريس لم يكن تجريبًا في ذاته، لكنه التجريب الذي يبحث عن الجديد في الرؤية والتجديد في أبعادها والتعميق لجوهرها. إن هذه الدراسة تطمح إلى فتح آفاق جديدة لعالم يوسف إدريس القصصي، واستثمار معطيات علوم السرديات الحديثة لاكتشاف المزيد من عطاءات أعماله. الجدير بالاشارة أن دراسة " لغة الاعماق البعيدة .. فن القصة القصيرة عند يوسف ادريس " صدرت في كتاب عن المجلس الاعلى للثقافة في 440 صفحة من القطع الكبير