تدور رواية "الأب سيرجي" لليف تولستوي التي ترجمها للعربية عن اللغة الروسية حديثًا الدكتور أحمد صلاح الدين، حول فجيعة الأمير الشاب ستيبان كاساتسكي عشية زفافه إلى كونتيسة قريبة من البلاط الإمبراطوري الروسي، زمن القرن التاسع عشر، ففي ذلك اليوم تعترف له خطيبته الكونتيسة ماري كوروتكوفا بأنها على علاقة غرامية مع القيصر نيكولاس الأول، ما يؤدي لإصابته بصدمة قاسية يقرر على أثرها الخلاص من عالمه الذي ألفه، ويحظى فيه بتقدير ومستقبل كبير، فضلاً على مكانته وقربه من البلاط القيصري. الأمر المهم في رواية "الأب سيرجي"، التي صدرت بعد وفاة تولستوي، أنها تهز بشكل جذري أساس اللاهوت العقائدي، من خلال غضب الأب سيرجي من علل الكنيسة، ومن النساء اللواتي يمرحن بين جنباتها، فيجد نفسه دائمًا في صراع مع سلامه الداخلي، لكنه بعد سنوات من أخذ نفسه بالشدة والالتزام، استسلم وسقط في الشهوة، غير أن سقوطه كان الطريق لتجديد روحه؛ فيقرر الهروب مرة أخرى من الكنيسة ليعيش حياته بين الفلاحين. تُعتبر الرواية الصادرة عن دار "المتنبي" السعودية، بمثابة استمرار لأعمال ليف تولستوي التي تتناول رحلة العذاب والألم لأبطاله الذين يسعون للوصول للحقيقة، كما في رواية "البعث"، وترسم المراحل المتنوعة التي تمرّ بها هذه الرحلة الروحانية، وتتلامس حبكة القصة من بعيد مع سير وحكايات القديسين، من خلال حياة إنسان لفظ المجتمع وقرر اعتزاله، لكنه مع ذلك ظل في توحده مع ذاته يصارع الغواية والفتنة.كانت تلك هي واقعة اختباره الثانية التي جعلته يدرك أنه لا يزال ضعيفاً، وقتها يقطع إصبعه. لتصاب المرأة بحالة من الذهول، ظلَّت مسيطرة عليها حتى مغادرتها الكنيسة، في صباح اليوم التالي، غادرت بعد أن تعهّدت للرجل صاحب الإصبع المبتور بتغيير حياتها. لتنضمّ، بعد مرور عام على تلك الواقعة، إلى دير. ومع مرور الأيام تذيع شهرة الأب سيرجيوس. صار طبيباً لأرواح المتعبين، وراح يزوره الحجاج من كل البقاع، ورغم سمعته الطيبة التي انتشرت في أماكن كثيرة، فإن الأب سيرجيوس يدرك تماماً عجزه عن بلوغ الإيمان الحقيقي، فما زال يتعرض لعذابات الشهوة، فضلاً عن باقي الأمراض الإنسانية، ويرى أنه دائماً ما يفشل في كل اختبار يتعرض له، فعلى الرغم من ارتفاع قدره بين الناس، وتمجيدهم له، ورفعه إلى درجة عالية من القداسة والتقوى، فإن الأب سيرجيوس يظل محاطاً بالشك والتعاسة طوال حياته. لا تستهدف الرواية تعظيم وإجلال حياة العزلة والقدسية الكنسية، إنما فضحها وكشف أسرارها. فالكاتب ليف تولستوي يرفض من حيث المبدأ الدين الرسمي، ويستنكر حياة الأديرة المنعزلة عن العالم، تلك التي لا تجلب الرضا لأولئك الذي يبحثون عن المثال الروحي، ولا تعين الفقراء البائسين الذين يتطلعون إلى تلبية احتياجاتهم الدنيوية الواقعية، فقرار الأمير ستيبان بطل الرواية مغادرة عالم الرفاهية والملذات واللجوء إلى الكنيسة، للوقاية من تناقضات مجتمعه الأرستقراطي، لكنه يفاجأ بحياة الأديرة الأكثر تناقضاً، فيسعى إلى كشف زيفها، وما يجرى بين جدرانها من وقائع وأحداث. إن مأساة بطل رواية "الأب سيرجي"، بعد أن قضى أعوامًا في الدير، في حياة العزلة، هي أنه اكتشف أن عمله الشاق المرهق يمثل ضرورة لأمراء الكنيسة؛ ف"هو ليس أكثر من وسيلة لجذب الزوار والمتبرعين للدير"، وهو ما يجعل قداسته بعيدة تمامًا عن استهداف تحسين حياة الناس وجعلها أفضل، وأن مسألة هجر الإنسان للعالم الخارجي وانعزاله وحرمانه من متع الدنيا محض خداع وشر قاتل. كما أن صراعه مع المغريات الحسية أمر في غاية الصعوبة والألم، وهو يتطلب الانتباه الشديد لكل تصرفاته، ليصبح في النهاية عائقًا أمام تأدية الواجب نحو الناس، إضافة إلى أنه يعوق التواصل البسيط المباشر معهم. لقد هدف تولستوي في هذه الرواية إلى "تعرية المؤسسات الكنسية بمظهرها الكاذب الذي جعلها تبدو كنزل. وأراد فضح عنفها الاستبدادي ضد هوية الإنسان. لكن رفضه الدين الرسمي، الكهنوت، لا يعني أنه ينكر الدين عمومًا، بالتأكيد على أن الدين الحقيقي هو التسامح، التضحية، عدم مقاومة الشر بالعنف، ومن ثم، يضع تولستوي الشكل التقليدي للكنيسة في مقارنة مع العمل على إنكار الذات وخدمة الناس بود ومحبة في الحياة اليومية العادية". وقد أشار مبكرًا إلى روايته "الأب سيرجي"، عندما كتب في مذكراته، في الثالث من فبراير (شباط)، عام 1890 عن وجود نية لمعالجة هذا التناقض في العمل، فقال: "إن يديّ لتحترقان من فرط الرغبة في الكتابة عن الزاهد ومعلمة الموسيقى".