إنه لا يقدم المعلومة جاهزة ، حتي يدفع الطالب إلي أن يكون مشاركا في الحصول عليها ، فيكون إيجابيا ويتعود علي القراءة والتفكير ، فيعرض عليه _ مثلا _ صورة ، طالبا منه أن يحدد العلاقات بين عناصرها لقد كنا حَسَني الظن عندما كنا نستغيث مما يقوم به كل وزير تربية جديد ، بهدم كل أو معظم ما قام به سابقه ،وكأن التاريخ سوف يبدأ فقط بلحظة توليه الوزارة ، ويعتبر ما قبله هو ما يقولون عنه " ما قبل التاريخ " ... وكثيرا ما كانت أصواتنا ترتفع بالقول أن أولادنا ليسوا فئران تجارب ! إن حسن الظن هنا يتأتي من معرفة أن استخدام فئران للتجارب يعني حدوث عملية علمية تستهدف تغييرا وتطويرا ، حتي ولو كان انقلابا علي تم ،وهو أمر _ مع كل التحفظات التي يمكن أن تساق _ فيه ولو بعض الفائدة ، لكن ما نراه في الشهور الأخيرة يشير إلي تحول في مجري الأمور بحيث يبدو التعليم وكأنه قد تحول إلي لُعبة في يد الوزير ، يلهو بها ، صائحا في كل مكان " أنا شجيع السيما .."! كان أول مظهر هو الإطاحة بمعظم رجال الوزير السابق ، وإذا كان الكثرة الغالبة من هؤلاء قد أطيح بهم ، فمعني ذلك أنهم كانوا علي درجة من السوء لا تُحتمل ، فهل حُولوا إلي النيابة ؟ وهل تم التحقيق معهم ؟ نحن نطبعا لا نقطع هنا وإنما من حقنا أن نتساءل عما أخطأوا فيه ،ومن حقنا أن يحاسبوا علي هذا ، لأن هناك ملايين ممن أموال هذا الشعب الفقير الذي يتضور عشرون مليونا من أبنائه جوعا لا يجدون الماء الصالح للشرب ،ولا رغيف الخبز ولا المأوي الذي يحميهم . وفضلا عن ذلك ، فهؤلاء كانوا يصنعون السياسة التعليمية ،وفعلوا كذا وكذا مما جري عبر السنوات القليلة الماضية ، فهل كان وزيرهم " نايم علي ودانه " ؟ وأين الجهات الرقابية ؟ أو لم تكن سياسة التعليم تعرض علي مجلسي الشعب والشوري ؟ وألم تكن تعرض علي مجلس الوزراء ؟ مرة أخري ، إننا لا ندين هؤلاء ، فكلهم نعرفهم معرفة شخصية ،وإنما: نريد أن نطمئن علي تاريخ هذا البلد المسكين. ونريد أن نطئن إلي أين ذهبت أموالنا ؟ ونريد أن نطمئن إلي أن ما فعله الوزير هو الإجراء السليم ،ونأمن أن من سوف يجئ بعده لن يهدم المعبد بدوره لنعيد الكَرّة مرة أخري ، ويستمر التعليم علي سوئه . وآخر حواديت الوزير " هوجة " الكتب الخارجية ..حيث انكشفت القبة عن غير شيخ يرقد تحتها ، كيف ؟ في البداية ، ظننا الرجل ينطلق من مبدأ تربوي علمي يري في وجود كتب خارجية صورة من صور الانحراف التعليمي ،ومن هنا فقد راينا خطوته ، خطوة علي الطريق الصحيح ، وكان نقدنا هو " توقيت " المعركة ،حيث كان يجب أن تكون قبل بدء الدراسة بعدة شهور حتي يمكن لكل أطراف العملية التعليمية أن يتحسب لما يجب أن يفعله ،وكذلك انتقدنا طريقة إدارة هذه المعركة ، إذا صح وصفها بذلك ...فإلي ماذا انتهي إليه الأمر ؟ يبدو _ والله أعلم _ واستنتاجا مما كتبته صحيفة الفجر منذ أسبوعين أن السيد صفوت الشريف طلب من الوزير " ألا يعمل لهم دوشة ،ويحل هذه المشكلة سريعا " ، خاصة وأن موسم انتخابات مجلس الشعب قد أصبحت علي الأبواب ،وهي أهم انتخابات لأنها تؤسس لانتخابات الر ئاسة في العام التالي ،ووجود حالات تذمر من عشرات الألوف من المواطنين ،والتزاحم اليومي علي مكتبات الفجالة أمر يمكن أن يسئ لصورة النظام . بل لقد بدأ الأمر يدخل في باب تداول التنكيت ، كعادة الشعب المصري المقهور ، عندما يري وضعا لا يعجبه ،ويجد " أن ما باليد حيلة " ، فتنطلق النكات ،ولعل أبرزها هو ما روي من أن فرقة ضبط بوليسية هاجمت مكانا فصاح أصحاب المكان مقسمين أنهم لا يخبئون كتبا خارجية ،وأن الذي يخبئونه هو فقط بعض المخدرات !! وكان من التداعيات المؤسفة ، أن هناك مدارس لم تصل إليها بعض الكتب الأساسية حتي الآن ، بعد مرور شهر علي بدء الدراسة ..أقول هذا بعدما شكا لي ابني من أن حفيدي في الصف الثالث الإعدادي لم يتسلم بعض الكتب حتي الآن وعندما راحوا يسألون عن كتب خارجية لتنقذ الموقف لم يجدوها بفعل الإرهاب الذي مورس علي الناشرين الخصوصيين ، فكأن الوزارة " لا رحمت ، ولا سابت رحمة ربنا تنزل " ، كما يقولون في الأمثال ! ثم إذا بنا نري أن " مشكلة الكتب الخارجية " لم تعد قائمة ، دون أن نعلم : هل استطاعت الوزارة ، في ظل هذه الأيام القليلة ،ووسط تكاثر مشكلات بداية الدراسة ، أن تنتهي من فحص عشرات الكتب الخارجية ، فتحكم بأنها صالحة للاستعمال ؟ وهل دفع الناشرون بالفعل كل ما طُلب منهم ؟ ولم إذن رفعوا قضية علي الوزارة ؟ أم أن التوجيهات العليا صدرت بضرورة الانتهاء من هذه القضية فورا ؟ لا نملك معلومات ، لأننا تعودنا أننا لسنا من أصحاب البلد ،ومن ثم فلا يهم أن نُعلَن بجملة الحقائق قي مؤتمر عام يذاع علي أجهزة الإعلام كما يحدث في النظم الديمقراطية المحترمة ، وما نشير إليه هو مجرد " احتمالات " لا ترقي إلي مرتبة اليقين ،وإن كانت جريدة الفجر في عدد الأسبوع الحالي قد أشارت إلي أن التقرير الذي كتب في البداية عن مكاسب الناشرين للكتب الخارجية ، مبالغ فيها ، ولا ندري ، هل هذا فقط لحفظ ماء الوجه أم لا ؟ ذلك لأن هذا يمكن أن يحمل مؤشرا خطيرا هو أن " العجلة " ،و" الاندفاع " هما سمتان من السمات التي تميز قيادة التعليم الحالية . لقد قال البعض _ وهذا صحيح _ إن ظاهرة الكتب الخارجية لا توجد إلا في مصر ، وتخلو منها دول العالم أجمع ..وكان هذا ضمن برنامج تليفزيوني الأسبوع الحالي ، لكن المتحدث المحترم ، إذا كان قد قال حقيقة مؤكدة ، إلا أنه لم يفسر هذه الظاهرة ،وإلا بدونا في مصر " مخترعين " لسوأة " تعليمية تشيننا حضاريا بين شعوب العالم ، مع أننا نرفع صوتنا دائما بأننا أصحاب أعرق حضارة في التاريخ .. لا يقولون بالتفسير ، لأن في التفسير إدانة لتعليمنا ..حيث يدفع مئات الألوف من أبناء شعب فقير ملايين الجنيهات ثمنا لسلعة المفروض أن تقدمها الدولة من خلال مدارسها " مجانا " ، فماذا يعني هذا ؟ معناه شعور هؤلاء بأن السلعة الرسمية غير صالحة للاستعمال ! كان في البرنامج التليفزيوني أحد قدامي الموجهين ، الذي أخبرنا بأن كتابا في اللغة العربية حُول إليه لفحصه _ في الثمانينيات -فوجد فيه سبعين خطأ ،وأخطر المسئولين بذلك ، لكن الكتاب طُبع كما هو ،وأفتي وكيل وزارة أسبق بأن كتابا يطبع بأخطاء خير من عدم طباعته الكتاب كلية! وليس معني هذا أن هذا كان قديما فقط ، فبالنسبة لبعض الكتب الجديدة، أشارت صحف متعددة إلي عدد من الأخطاء العلمية واللغوية والطباعية في هذه الكتب ، بعدما تمت طباعتها ،وصُرف عليها عشرات الملايين من الجنيهات ! ومع ذلك ، فإننا نقرر أن الكتب الرسمية تقوم علي أسس علمية تربوية رائعة ، لكن المشكلة التي ننبه إليها عشرات المرات ، أن النسب العلمية للعناصر الغذائية التي يجب أن يتناولها الإنسان ، يمكن أن تكون ضارة إذا كان الجسم غير سليم ،ويعاني من أمراض شتي ،وهذا هو الشأن بالنسبة للكتاب الرسمي . إنه لا يقدم المعلومة جاهزة ، حتي يدفع الطالب إلي أن يكون مشاركا في الحصول عليها ، فيكون إيجابيا ويتعود علي القراءة والتفكير ، فيعرض عليه _ مثلا _ صورة ، طالبا منه أن يحدد العلاقات بين عناصرها ، أو يسأله عن المعاني التي تتضمنها ،وما ينقصها من معلومات لاستكمالها ..وهكذا لكن ، هذا لا يفيد أبدا في ظل كثافة فصل تتجاوز أحيانا خمسين تلميذا وعلي يد مدرس ما زال راتبه لا يكفيه حد الكفاف ،وفي ظل مكتبة مدرسية فقيرة ، ضيقة المساحة ،وفي ظل جدول مدرسي لا يسمح بحرية حركة للطلاب كي يقضوا وقتا بالمكتبة ، دون أن يجور ذلك علي حقهم في النشاط واللعب والترفيه وتناول الطعام ..وهكذا. هنا يجئ الكتاب الخارجي ليقدم الإجابات ، فيسرع إليه الطالب ، لا لأنه سلبي بطبعه ،ويستسهل الحصول علي المعلومة الجاهزة ، فهذا غير سليم من الناحية النفسية العلمية ،وإنما لأن النظام التعليمي بالمدرسة لا يساعد علي ذلك . بل انظر إلي المجتمع ككل ،وكيف تعودنا ، عبر قرون _ ومازلنا _ علي أننا لا ينبغي أن نشارك في التفكير في القرارات المصيرية ، بل ننتظر كي تهبط علينا من أعلي ،وكل وزير ، يفخر _ علنا _ بأنه لا يعمل إلا بناء علي توجيهات القيادة السياسية ، مع أنه يمثل سقف العمل والتفكير في دائرته ..المناخ المجتمعي ،والثقافي لا ينَشّئ المواطن علي استقلالية التفكير والمشاركة في اتخاذ القرار ، فكيف نطالب تلميذنا صغير السن بذلك ؟ ومرة أخري ، وبعد أن وضعت حرب الكتب الخارجية أوزراها ، نعود للتساؤل : إذا كانت الكتب الخارجية مرضا تعليميا يجب القضاء عليها ، فلم تم التراجع ؟ هل كانت القضية قضية تحصيل أموال من الناشرين ،ولم تكن قضية علم تربوية تري في وجود كتاب خارجي حكما علي الكتاب الرسمي الذي أنفقنا عليه مئات الملايين من الجنيهات بأنه فاشل عمليا ؟