في الشهرين الماضيين رحل ثلاثة من المفكرين العرب الأكثر جدلاً في الثلاثين عامًا الماضية وهم: محمد عابد الجابري، ومحمد أركون ونصر حامد أبو زيد والثلاثة ينتمون إلي مدرسة "التجديد الفكري" في سياق "تجديد الخطاب الديني" وهي المدرسة التي تتخذ من إعمال العقل واستنتجاته الدلالية المنطقية طريقًا لفهم الخطاب الديني وتحليل النص الديني وفق متطلبات العصر ولأنها مدرسة خالفت التيارات السائدة التي اتكأت علي تقديس الموروث دون مناقشة أو محاورة فقد قوبل جدلها بحملات عاصفة تنوعت ما بين النفي والاستبعاد والقتل أيضًا، بسبب آرائها المعتمدة علي الجدل العقلاني الخصب. وقد عاني المفكرون الثلاثة من النفي والاستبعاد من قبل المؤسسات الرسمية وإن كان أكثرهم معاناة هو الراحل د. نصر حامد أبو زيد والذي لاقي الأمرين بسبب مقالاته ودراساته حول "تجديد الخطاب الديني" فقد شهد عام 1993 واحدة من أخطر قضايا المصادرة في القرن العشرين وهي تكفير "أبو زيد" داخل حرم جامعة القاهرة بعد أن تقدم بطلب للترقي من درجة أستاذ مساعد إلي درجة أستاذ بقسم اللغة العربية بكلية الآداب، وتقدم "أبو زيد" بمجموعة من مؤلفاته ومنها "الاتجاه العقلي في التعبير" دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة و"فلسفة التأويل دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي" و"مفهوم النص.. دراسة في علوم القرآن"، و"الإمام الشافعي وتأسيس الايديولوجية الوسيطة"، و"الخطاب الديني.. رؤية نقدية" و"إشكاليات القراءة وآليات التأويل"، و"أنظمة العلاقات مدخل إلي السميوطيقا" وغيرها. ورغم أن هذه الدراسات قد أحدثت صدي واسعًا في العالم العربي وقت نشرها إلا أن مجلس الجامعة رفض في جلسته بتاريخ الخميس 1993/3/18 ترقيته وأيد تقرير اللجنة العلمية لأساتذة اللغة العربية، وذلك رغم أن هناك اثنين من أعضاء اللجنة قد أقره بجدارة "نصر" بالحصول علي الدرجة إلا أن العضو الثالث وهو د. عبدالصبور شاهين قد وصف مؤلفات د. نصر بأنها "جدلية في جدلية لتخرج بجدلية تلد جدلية تحمل في احشائها حنينًا جدليا متجادلا بذاته مع ذاته". ولم يكتف بتلك العبارات بل راح يغمز الكاتب في دينه في عبارات مثل "كأنه اعترض علي القرآن ذاته" و"كلام أشبه بالإلحاد" وغيرهما من العبارات الخطيرة. وما كان من إدارة الجامعة إلا أن اخذت بهذا التقرير وألقت بالتقريرين الأخيرين إلي عرض الحائط مما آثار اساتذة قسم اللغة العربية وكلية الآداب عامة فكتبوا تقريرًا ورفعوه إلي عميد الكلية يشجبون فيه ما حدث لكن مجلس الجامعة تمسك بقراره. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد فقد رفعت عدة قضايا حسبة تنادي بالتفريق بين د. نصر حامد أبو زيد وزوجته د. ابتهال يونس وهي أستاذة جامعية ايضًا - كانت أولها في 17 مايو 1993 وقد أصدرت محكمة الجيزة الابتدائية للأحوال الشخصية برئاسة المستشار محمد عوض الله - رئيس المحكمة وقتها - حكمًا برفض الدعوي بتاريخ الخميس 27 يناير 2004 لكن تم استئناف الحكم من قبل المحامين الذين قاموا برفع الدعوي وحكمت المحكمة بالتفريق في واقعة هي الأولي في تاريخ مصر. ونقف قليلاً عند بعض أفكار "أبو زيد" والذي اعتمد في تحليله علي المنهج النقدي التحليلي حيث رأي ان الخطاب الديني يربط بين الفكر والدين وعلي رد الظواهر إلي مبدأ واحد وعلي اليقين الذهني والحسم الفكري وانه ينطلق من الحاكمية ومن النص فتوصل د. نصر - علي حد تعبير المفكر الراحل خليل عبدالكريم - إلي أن ذلك كله يشل العقل ويفقده فاعليته وأن هيمنة النصوص استثمرت كأيديولوجية لتبرير شرعية الأنظمة الرجعية المتخلفة بمختلف أشكالها وانها تكريس للعبودية لدي الإنسان العربي والمسلم، وانها تجذير للسمع والطاعة، والامتثال والاذعان فمن ذا الذي يجرؤ علي الوقوف في وجه أوامر ونواه يزعم القائلون بها - سواء من السلطة أو من رجال الدين الذين يتسولون الحكم - انها تطبيق للمشيئة الإلهية؟ وفي رد الظواهر إلي علة واحدة إلغاء لعقول الناس وتعطيل لملكات الإبداع والتفكير والبحث لديهم وتأصيل للأساطير والماورائيات والتهويمات والرؤي.. إلخ، وفي ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة النابعة من اليقين الذهني والحس الفكري نفي للآخرين وقمع للمعارضين وقهر للمناهضين ووصفهم بالمروق والإلحاد والخروج من الملة. ويضيف خليل عبدالكريم: ولم يكتف د. نصر بنقد التيار الديني بل تعداه إلي الأنظمة السياسية الموجهة لهذا التيار فالقمع في الحالتين واحد فالأول باسم الدين والآخر باسم السياسة. ولم تكن قضية نصر أبو زيد هي الأولي في الجامعة المصرية فقد سبقتها حوادث مشابهة لعل أشهرها كتاب "الشعر الجاهلي" لطه حسين والذي أصدره عام 1926 ومحمد أحمد خلف الله والذي استبعد من الجامعة بسبب رسالته "الفن القصصي في القرآن الكريم" عام 1948 وقد كانت الرسالة جديدة في تناولها للسرد القصصي في القرآن الكريم - وتحت إشراف أمين الخولي - حيث طرح فيها فكرة أن القصص القرآني يتطور من حيث الموضوعات أو من حيث الآراء حسب قاعدة التدرج في التشريع فقد نزل القرآن لخدمة الدعوة الإسلامية وشرح مبادئها وتوضيح عقائدها والدفاع عن النبي العربي. وربما ما ألب الأزهر ومشايخة ضد د. خلف الله - وقتها - هو إدخاله للجانب النقدي في تحليله لتيمات السرد والبعد الزمني كمناطق جديدة للتفسير القرآني. وإذا كان نصر أبو زيد قد رحل فإن تراثه وجدلياته العقلية سيبقي مثار اهتمام الباحثين عن المعرفة وهواة الاختلاف، وقد جاءت الاحتفالية التي اقيمت الأسبوع الماضي بدار الأوبرا لتكريمه حافلة بكثير من المعاني الإنسانية الدالة علي قيمة الحوار والاختلاف وحرية التعبير، ولا أجد هنا أدل من موقف د. آمنة نصير أستاذة الدراسات الاسلامية بجامعة الأزهر والتي ضربت مثالاً للاستنارة الدينية تجلي ذلك في وصفها لنصر أبو زيد بالأخ والصديق الذي يحمل كل معاني الود والحب مؤكدة أن ثقافة الاختلاف هي إرادة إلهية وأن المثقفين والمفكرين التنويريين في معركة دائمة - بحاجة إلي صبر - ضد ما اسمته "التدين الظاهري الذي يأخذ بالقشور فقد دون التعمق في جوهر الدين". وربما هذا ايضًا ما عبر عنه المشاركون المصريون والعرب أمثال د. حسن حنفي وبرهان غليون وعلي حرب ود. جابر عصفور ود. عماد أبو غازي والشاعر زين العابدين فؤاد والذي وصف "نصر" الإنسان والمفكر بأنه "قصيدة تمشي علي الأرض" وهكذا كل المحبين للإنسانية والحرية وقيمة الحوار. ولم تنته الليلة - كعادة ليالي التأبين بالوداع - وإنما كانت وعدًا بلقاء آخر في رحاب الحوار الخلاق والبحث عن آفاق جديدة لاحترام الرأي والرأي الآخر.