بعد أن توقف إطلاق النار في غزة من الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني بعد حرب استمرت قرابة 20 يوما قُتل فيها ما يربو علي 1400 من الجانبين وجُرح حوالي خمسة آلاف، ارتفع الصياح والجدل فجأة وفي داخل مصر بالذات بسبب مذكرة تفاهم تم توقيعها بين الولاياتالمتحدة وإسرائيل حول "منع تهريب الأسلحة والمواد ذات الصلة إلي الجماعات الإرهابية". وتركز الجدل حول انفراد الدولتين بالتوقيع علي هذه المذكرة بدون التشاور مع مصر، ثم الحديث عن أن هذه المُذكرة يمكن أن تفتح الباب إلي نشر قوات مراقبة دولية علي الحدود بين مصر وغزة لمنع تهريب الأسلحة إلي داخلها، وهو ما قد ينتقص من السيادة المصرية في المستقبل. وفي نفس الوقت أعلنت حماس أنها لن تسمح بوجود قوات دولية داخل غزة أو علي الحدود بينها وبين مصر، كما تمسكت بوجود ممثلين لها علي معبر رفح. وبطبيعة الحال، من الصعب الحُكم علي هذه المذكرة بدون قراءتها، وللأسف هذا ما حدث مع كثيرين نتيجة حالة الاستنفار الجاهزة عندما يتواجد اسم إسرائيل بجانب الولاياتالمتحدة، وما يترتب علي ذلك من اتهامات جاهزة بانحياز أمريكا الكامل لإسرائيل ضد دول المنطقة، وزاد الطين بلّة تأييد دول الاتحاد الأوروبي للمُذكرة، ودعوته إلي مزيد من التعاون لكبح عمليات تهريب السلاح إلي مناطق الحروب والنزاعات. وحتي يمكن الحكم علي مذكرة التفاهم، وتحديد ما لها وما عليها، يجب أن نُقر بأنها مجرد "مُذكرة تفاهم" وليست اتفاقية كما يردد البعض، كما أنها تَعكس رُؤية عامة تتعدي العلاقات الثنائية بين إسرائيل وأمريكا، إلي نظرة إقليمية شرق أوسطية أوسع تهدف إلي دعم الاستقرار في هذه المنطقة المُضطربة من العالم. وهناك بالتأكيد عدة سطور في بداية المُذكرة تُؤكد علي التزام الولاياتالمتحدة بأمن إسرائيل، وعيشها داخل حدود آمنة يمكن الدفاع عنها ضد أي تهديد أو حزمة من التهديدات المختلفة. وكذلك الحفاظ علي قدرتها علي الردع، الأمر الذي يتطلب طبقا للمذكرة تأكيد التعاون الثُنائي المُشترك بين الدولتين في مجالات الأمن وتبادل المعلومات من خلال الحوار الاستراتيجي المَوجود أصلا منذ سنوات بعيدة بين الدولتين. وتُلفت المُذكرة النظر في فقرتها الثالثة إلي جهود الرئيس مبارك ورؤيته بأن تأمين حدود غزة لازم لتحقيق نهاية دائمة ومستقرة للحرب التي دارت داخلها. والغريب أن البعض قد أنكر وجود هذه الفقرة في المُذكرة مما يعني أن كثيرا قد تحدث عنها بدون أن يقرأها بعناية أو بدون أن يقرأها كلية. ولحسن الحظ أن مصر تمتلك نفس الآليات المُؤسسية بصورة ثنائية مع الولاياتالمتحدة لمعالجة كثير من الموضوعات الاستراتيجية. وتُؤكد مذكرة التفاهم علي أن مُحاربة تهريب الأسلحة إلي غزة له جوانب مُتعددة، وأن مُواجهته تتطلب عناية وتركيزا إقليميا بالتوازي مع دعم دولي، وأن كلا من إسرائيل والولاياتالمتحدة سوف يعملان سويا أو بصورة منفردة للوصول إلي نهاية دائمة للأزمة الحالية، وضمان وصول المعونات الإنسانية إلي شعب غزة نعود للمذكرة ونقول إنها تُركز في الأساس علي العلاقة بين "تهريب" الأسلحة و"الإرهاب"، وهذه العلاقة كانت محورية أيضا عندما اهتمت الأممالمتحدة بكيفية مواجهة الإرهاب في إطار جماعي وطبقا لقرارات مُلزمة، حيث كان تهريب السلاح موضع تقنين بجانب أشياء أخري مثل غسيل الأموال، والتحريض علي القتل ونشر الكراهية عن طريق الدعوة الدينية. وقد كشفت الحرب في غزة عن وجود حجم مُدهش من الأسلحة المُهربة داخل القطاع، وبرغم أن حكومة حماس كانت تشتكي من قلة الغذاء والدواء، إلا أنها لم تكن تُعاني من نقص الأسلحة وخاصة الصواريخ، كما أنها تعمل علي تطوير خصائصها في المدي وحجم التأثير عند الهدف. ومن البداية كان هناك اتفاق بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية علي وجود قوات أمنية داخل المناطق الفلسطينية مُجهزة بالتسليح المناسب للحفاظ علي الأمن الداخلي، لكن ذلك كله انهار فجأة، وسعت حماس والسلطة الفلسطينية إلي الحصول علي سلاح من الخارج عن طريق التهريب، وهو ما أدي في النهاية إلي مقتل الكثيرين علي الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي. وكُلنا نتذكر السفينة "كارين-إيه" والتي تم إيقافها وتفتيشها بواسطة البحرية الإسرائيلية علي بعد 500 كيلومتر من ساحل إسرائيل في 3 يناير 2002، وكانت السفينة تحمل خمسين طنا من الأسلحة الإيرانية، ومن بينها صواريخ كاتيوشا، وذخيرة مضادة للدبابات، وعبوات من المواد المتفجرة. وقد اعترف ياسر عرفات بعلمه عن هذه السفينة وما تحمله من أسلحة. والفكرة الرئيسية في مذكرة التفاهم الأمريكية- الإسرائيلية أن تهريب الأسلحة إلي تلك الجماعات المُسلحة يعني إعطاءها القدرة علي اتخاذ فيتو ضد أي جهود حقيقة للسلام من خلال تخريبه بعملياتها الإرهابية. ولاشك أن حالة من الخلط قد ساعدت علي تدمير مسيرة السلام الفلسطينية -الإسرائيلية من الجانبين. فمن ناحية كانت هناك اتفاقيات تُنظم العلاقة بينهما وخاصة العلاقة الأمنية، ومن ناحية أخري كان كل جانب يتصرف علي أن الآخر عدو له. فإسرائيل لم تتوقف عن بناء المستوطنات وتهويد القُدس، كما لم يتوقف الجانب الفلسطيني عن اختراق الاتفاقيات المُوقعة تحت شعار المقاومة، إلي أن وصلنا إلي الوضح الحالي بانفجار العلاقة في صورة حرب تُستخدم فيها الطائرات والقاذفات والصواريخ والمدافع، ويمتد فيها القتال إلي داخل الأنفاق المُمتدة تحت الأرض لمسافات بعيدة. وانتهت المُذكرة بعدد من التفاهمات يقوم معظمها علي جهود موجودة بالفعل علي أرض الواقع، لكن تهدف المذكرة إلي زيادة فاعلية هذه الجهود وتطويرها لتناسب المتغيرات الجديدة. وبشكل أساسي تدعوا المذكرة إلي استغلال إمكانيات حلف الناتو في مواجهة تهريب الأسلحة من خلال التصدي لهذه العمليات في البحر والجو والبر. ومن المعروف أن حلف الناتو بعد أحداث 11 سبتمبر قرر أن يتسع نشاطه العسكري إلي مواجهة الإرهاب، وقد مثل ذلك تحولا مهما بالنسبة له، فمن مواجهة الدول إلي مواجهة جماعات عسكرية متفرقة تستفيد من مافيا الأسلحة والمخدرات والمواد الحرجة المطلوبة لتصنيع المفرقعات وأسلحة الدمار الشامل. وفي هذا الإطار كُلف مركز قيادة الناتو في نابلس بإيطاليا بإدارة عملية "السعي النشط" ضد أنشطة الإرهاب في المتوسط. وتتضمن هذه العملية الكبيرة مجموعة من الأنشطة العملية من أهمها نشاط المراقبة علي مدار الساعة، والرصد والتفتيش. ويدعم حلف الناتو في هذا النشاط حوالي 46 دولة تزود الناتو بالمعلومات من خلال شبكة معلومات مجهزة لهذا النشاط. ولقد نجحت هذه العملية في توفير صورة بحرية شاملة ومستمرة للمتوسط في أية لحظة، مع العلم أن المتوسط يبحر فيه في كل لحظة حوالي 7000 سفينة تجارية بالإضافة إلي القطع العسكرية. وحتي الآن ومنذ بدايتها، تمكنت هذه العملية من الاتصال بأكثر من مائة ألف سفينة، وتفتيش 148 سفينة بالصعود عليها، كما تمت مُصاحبة 488 سفينة عبر مضيق جبل طارق. ولقد شاركت روسيا في هذه العملية في سبتمبر 2006 بعد تبادل للخطابات مع الناتو، كما وقعت إسرائيل في أكتوبر 2006 مذكرة تفاهم فنية مع مركز القيادة البحرية في نابلس، أما المغرب فقد انتهت من مرحلة تبادل الخطابات في يونيو 2008. ومع أن مصر من المؤسسين لحوار الناتو المتوسطي إلا أنها لم تنضم لعملية السعي النشط حتي الآن طبقا لما هو منشور علي الموقع الإلكتروني لحلف الناتو. ولا يوجد في مذكرة التفاهم بين إسرائيل وأمريكا لمواجهة تهريب السلاح ما يشير إلي عملية السعي النشط، ولكن الأرجح أن تلك العملية الموجودة بالفعل سوف يمتد نشاطها أبعد من البحر المتوسط إلي البحر الأحمر وبحر العرب والمحيط الهندي والتي تُعاني من سيطرة القراصنة وتجار السلاح وتهريب البشر، وكلها أنشطة تُؤدي في النهاية إلي اندلاع الحروب وانتشار عدم الاستقرار وترنح سلطة القانون. ومن هنا تظهر الحاجة إلي إطلاق عملية ضبط وسيطرة تاريخية، إقليمية وعالمية.