كانت هزيمة جيوش العرب في حرب 1967 تاريخ الميلاد الحقيقي لمنظمات المقاومة الفلسطينية. الفدائيون قدموا التنظيمات والميلشيات وحرب العصابات بديلا عن الجيوش النظامية. الإهانة التي لحقت بالجيوش جعلت العرب مستعدين للتعلق بالأمل الجديد. زادت شعبية منظمات الفدائيين واكتسبت زخما. تحرك الفدائيون بحرية وراحوا يشنون الهجمات علي إسرائيل عبر الحدود الأردنية الطويلة. بعض هجمات الفدائيين كانت بصواريخ تشبه كثيرا صواريخ حماس. أزعجت هجمات الفدائيين إسرائيل كما تزعجها اليوم صواريخ حماس. استعدت إسرائيل لشن حملة عسكرية علي قاعدة الفدائيين في بلدة الكرامة القريبة من الحدود. انسحبت منظمات المقاومة من البلدة بعد ورود أنباء استعداد إسرائيل للهجوم. وحده ياسر عرفات ومنظمته فتح رفضوا الانسحاب. في الواحد والعشرين من مارس عام 1968 هاجمت إسرائيل. صمدت فتح ودعمها الجيش الأردني. أجبر الجيش الإسرائيلي علي الانسحاب بعد أن تكبد 28 قتيلا. فقد الجيش الأردني عشرين شهيدا وفقدت فتح مائة وخمسين من الشهداء. صمود فتح حول الكرامة إلي أسطورة وياسر عرفات إلي بطل. حملت الأسطورة فتح علي جناحها فأصبحت الأمل الذي علق عليه العرب آمالهم بعد هزيمة الجيوش. معركة غزة قد تكون هي كرامة حماس. انتصار حماس سيفتح لها آفاقا كبري كتلك التي انفتحت لعرفات وفدائييه بعد معركة الكرامة. بعد الكرامة حلق الفدائيون بمكانتهم الجديدة في الآفاق فبات من الصعب تحديهم. مخيمات الفلسطينيين في الأردن تحولت إلي دولة الفدائيين التي امتنعت علي شرطة الدولة الأردنية وجيشها. احتقر الفدائيون الدول ومؤسساتها بعد أن اتهموها بالخنوع والعمالة. لم يكد العام 1970 يأتي إلا وانتفضت الدولة الأردنية دفاعا عن بقائها في مواجهة جيوش الفدائيين. حرب ضروس اشتعلت بين جيش الدولة الأردنية وتنظيمات الفدائيين. فقد الرئيس جمال عبد الناصر حياته في سبتمبر 1970 وهو يحاول التوفيق بين شرعية الدولة وشرعية المقاومة. انهزمت المقاومة وانتصرت الدولة رغم الدعم الواسع للفدائيين. لم يعدم الفدائيون في الأردن الحلفاء. نصف سكان الأردن هم من الفلسطينيين. رحل عرفات بفدائييه إلي لبنان لمواصلة الحرب ضد إسرائيل وضد الدولة اللبنانية أيضا. الفلسطينيون في لبنان وقوي اليسار اللبناني بتنويعاتها تحالفت مع عرفات ودعمته وحاربت تحت قيادته. تكرر في لبنان ما حدث في الأردن. لبنان المفتت كان أضعف من أن يحتمل الحرب فانفلت زمامها. دولة لبنان الضعيفة لم تستطع لا كبح جماح المقاومة ولا جماح كارهيها من اللبنانيين. طالت الحرب حتي دخل الإسرائيليون علي الخط مرة أخري. خرج الفدائيون من لبنان لكن لبنان لم يتجاوز الصراعات التي خلفتها الحرب. مازال لبنان يدفع ثمنا غاليا لضعف الدولة وتحالف الأبناء مع جيش الفدائيين. السلاح في غير يد الدولة كارثة حتي لو كان الهدف نبيلا. تحقير المؤسسات والجيوش خطيئة وإن أخطأت. التاريخ قد يعيد نفسه وقد لا يفعلها. المشهد الراهن في غزة ليس جديداً تماما. حماس ليست أول المقاومين ولن تكون آخرهم. لن يرتاح الشرق الأوسط حتي يفوز الفلسطينيون بدولة تقرير المصير. لكل مقاومة كرامتها، وبعد كل كرامة ما بعدها. لم ندخل بعد في مرحلة ما بعد غزة لكننا نعرف ما حدث بعد الكرامة الأولي.