وضع فيلم "مسجون ترانزيت" أيدينا، ربما من دون أن يدري صانعوه، علي حقيقة مثيرة وخطيرة عندما كشف أن الوطن مُهان ومنتهك، والأكثر خطورة أنه مُخترق، بواسطة أباطرة الفساد ومناخ الفساد الذي عصف بأرجائه وضرب أركانه،وهي الرسالة التي أزعم أنها لم تخطر علي بال كاتبه ومنتجه وائل عبد الله ومخرجته ساندرا نشأت، وربما بطليه أحمد عز ونور الشريف؛ فهي "رمية بلا رام"! اعتمد "مسجون ترانزيت" فكرة بسيطة، تبارت الأقلام في الحديث عن أصلها الأمريكي لكنها علي أية حال كانت فرصة لأن نتوقف عند بلد أصبح مُهاناً، بعدما هان علي ذئابه الذين انعقد تحالف بينهم وبين ثعالبه، وبات من حق أي مزور أو نصاب أن يفعل به مايشاء، مدفوعاً بهذا التحالف المشبوه؛ فالفكرة لا تخرج عن الشاب الأسكندراني "علي الدقاق" أحمد عز الحاصل علي شهادة الدبلوم المتوسط ويطمح في السفر والعمل في ايطاليا "مبيض محارة"(!)، ويحتاج إلي عشرة آلاف جنيه ليكمل مصاريف السفر فيخوض آخر مغامرة يستثمر خلالها أصابعه السحرية في فتح الخزائن، وهي الحرفة التي ورثها عن أجداده، لكنه يتورط في قتل صاحب الشقة، وإصابة رفيقه محمود البزاوي وبعد القبض عليهما يصدر حكم علي صاحبه بالسجن لمدة عشر سنوات وعليه بالأشغال الشاقة المؤبدة، ولا نحتاج إلي جهد كبير لنلاحظ خيانة صديقه وجبنه في الوقوف إلي جانبه بعدما يتلقي علقة ساخنة يطلق عليها المساجين القدامي "واجب الضيافة"، لكن مسئول كبير يقدم نفسه بوصفه العميد "شوقي" النجم نور الشريف الضابط بجهاز الاستخبارات ينجح في ابرام صفقة معه تصبح فيها فترة السجن القصيرة بمثابة "ترانزيت" يخرج "علي" بعدها ليؤدي المهمة الوطنية، التي كلفه بها "العميد شوقي"، وهل هناك وطنية أكثر من اقتحام يخت اسرائيلي في عرض البحر للاستيلاء علي ماتحتويه خزانة اليخت؟ هنا نتوقف عند مجموعة من الإيحاءات والدلالات التي يسربها الفيلم عن عمد؛ أولها اختيار لحظة أذان الفجر لتصبح ساعة الصفر لارتكاب الجريمة التي زجت بالبطل في السجن، فيما يشبه الحكم الأخلاقي علي الشاب وصاحبه بأن علاقتهما بالدين منتفية، وتؤكدها جملة الحوار التي يستنكر فيها البطل سؤال صديقه عما إذا كان أذان الفجر قد رُفع أم لا فيعلق باستخفاف :"شايفني مابقمش من سجادة الصلاة؟".. والدلالة الثانية تحملها عبارة العميد "شوقي": "بتحب مصر ياعلي؟" لاقناعه بالقيام بالمهمة الوطنية التي كلفه بها، وتكشف هي الأخري مدي ماوصلنا إليه من استغلال قبيح ورخيص لاسم الوطن في التغرير بالسذج وتمرير صفقات مشبوهة تخدم مصالح أصحابها وحدهم؛ فالشاب يغادر السجن، طبقاً لبنود الصفقة ويدخل معسكر إعداد وتأهيل لتنفيذ المهمة الوطنية وينجح بالفعل في تنفيذها، بعد قتل الإسرائيلي وحارسه الخاص، لكن مشهد ارتكاب الجريمة علي اليخت يترك انطباعاً لدي من يراه بعيون أجنبية بالتعاطف مع الضحايا الإسرائيليين، وأن المصريين قتلة وسفاكو دماء (!) وحسب بنود الاتفاق يحصل الشاب علي المبلغ المتفق عليه إضافة إلي جواز السفر بالهوية الجديدة التي يصبح اسمه فيها "عبد الرحمن"، والذي يخول له السفر إلي الكويت، وبعد ست سنوات يعود محملاً بالثروة ليفتتح مشروعاً لتجارة السيارات، وفي اشارة عابرة ندرك أنه تزوج وأنجب طفلاً أطلق عليه اسمه القديم "علي"، لكن الفيلم يفرط في التأكيد علي وساوس زوجته ايمان العاصي المبررة علي أية حال، بعدما تضطرب أحواله وتصرفاته عقب ظهور "شوقي" من جديد في حياته، بعدما أصبح "لواء"، ويسعي لتكليفه بمهمة جديدة تتمثل في السطو علي خزينة عضو مجلس الشعب "حسن موافي" محمد أبو داوود والاستيلاء علي بعض الوثائق المهمة، ولا تملك سوي التعاطف مع "عبد الرحمن" في رفضه الانسياق وراء الأوامر الجديدة، لكنك تستدعي من ذاكرتك مشاهد من فيلم "كشف المستور" تكاد تتطابق والشد والجذب التي يحاول فيها كل طرف اقناع الآخر بوجهة نظره، غير أن رفض البطل هذه المرة يأتي باهتاً ومتردداً، بعكس موقف نبيلة عبيد في الموقف المماثل، والقول بأنه يخشي ابتزاز اللواء "شوقي" غير مقنع، بعدما بدت تتكشف خيوط تفضح شخصيته وتكشف هويته. في كل الأحوال نجح الفيلم في خلق أجواء متوترة لا تخلو من تشويق واثارة، بفضل الإيقاع اللاهث (مونتاج أحمد حافظ) والموسيقي الموظفة بشكل جيد (طارق ناصر) لكن التصوير(نزار شاكر) يرتكب، تبعاً لرؤية المخرجة ساندرا نشأت، خطأ فادحاً عندما صور "شاهين" صلاح عبد الله في لقطة يجلس فيها علي مقعد ولي نعمته أحمد عز بينما تعكس المرآة وجوهاً متعددة له، في إشارة مبكرة كشفت ازدواجيته، ومن ثم جاءت خيانته، التي ظن الفيلم أنه ادخرها كمفاجأة، قديمة ومحروقة، بعدما تم نسفها بهذا المشهد المبكر للغاية، بينما كانت نظرات صلاح عبد الله الزائغة وغير المريحة، والحاحه الدائم علي طلب السلفة، التي تعكس نهماً مادياً لا ينتهي، كافية لصنع عنصر المفاجأة، إي تواطؤه مع عضو مجلس الشعب لتسليمه الوثائق التي استولي عليها ولي نعمته، في خيانة لم يبررها قوله أنها جاءت كانتقام لأن ولي نعمته رفض اعطاءه السلفة التي طلبها، ولم يسدد ماقبلها (!) والغريب أن السيناريو الذي فشل في ادخار مفاجأة خيانة صلاح عبد الله هو نفسه الذي حافظ، حتي النهاية، علي غموض شخصية "شوقي"، الذي قدم نفسه مرة بوصفه "رفعت" وأخري علي أنه "عادل"، قبل أن تنجلي حقيقة شخصيته وهويته؛ فهو نصاب عتيد ومزور محترف يلاحقه الكبار في الداخلية شريف منير ويعرفه لصوص مجلس الشعب محمد أبو داوود بل يبرمون معه صفقات مشبوهة يشاركهم أصولها وأرباحها وبذكاء شديد يؤكد الفيلم أن العلاقة بين عضو مجلس الشعب والنصاب المحترف يمكن أن تغفر لأي طرف خيانته المادية لكن الخيانة الاخلاقية لا تغتفر؛ فالمزور تأخذه النخوة، كأي ابن بلد شهم، بمجرد علمه أن زوجته خانته مع عضو المجلس فيرديه قتيلاً علي الفور بينما كان ينظر لكل ماعدا هذا بوصفه "بيزنس".أما صراع الأباطرة الذي يروح ضحيته الصغار والأطفال فهو حشو زائد في الفيلم استهدف تقديم جرعة عاطفية ميلودرامية، وهو ماعبرت عنه مشاهد قتل الطفل"علي" انتقاماً من والده، في حكم أخلاقي آخر علي غرار "كما تدين تُدان"(!) لكنها كانت فرصة، علي أية حال، لتظهر ايمان العاصي مقدرة فائقة في البكاء والعويل، وهي التي لم تستطع اقناع أحد طوال الفيلم بأن لديها موهبة حقيقية بعكس أحمد عز، الذي يخطو من فيلم إلي آخر خطوات كبيرة تُظهر قدراته علي ضبط أدائه، والتحكم في انفعالاته، واقناع المتفرج بمشاعره المتضاربة، وفي حين أدي محمد أبو داوود دوره بشكل تقليدي لا يختلف كثيراً عن الصورة التي يقدم بها عضو مجلس الشعب في السينما المصرية، يتراجع مستوي صلاح عبد الله بشكل كبير مما يثير الخوف من أن يتحول إلي صورة جديدة من حسن حسني (!) أما نور الشريف فقد أفلت المنتج من مأزق ترتيب الأسماء، بينه وبين أحمد عز، فاعتمد علي القول أن أسماء الأبطال جاءت تبعاً لظهورهم في الفيلم (!) وبالطبع كانت لخبرات نور الشريف دخل كبير في إضفاء مصداقية للشخصية، وبدا مقنعاً إلي حد كبير، لكنك لا تملك أن تنحي عن ذهنك الشعور الأكيد بأنك رصدت أداءه هذا في أدوار كثيرة أداها من قبل، وأن الشخصية كما كانت تحتاج إلي تجهم وجدية في البداية ليقنعك بأنه ضابط في جهاز سيادي مهم وكبير فقد كانت بحاجة أيضاً إلي خفة ظل بعد انكشاف حقيقته كمزور ونصاب، وإن نجح الفيلم في التأكيد علي لسانه أن شبكة العلاقات العامة قادرة علي التغلغل في كل أوساط الدولة وأجهزتها، مهما كانت حساسة أو شائكة، كالداخلية والخارجية ومجلس الشعب، وهو التغلغل الذي يؤكد الفيلم أنه وصل إلي درجة الاختراق، وهنا مكمن الخطورة التي لا أدري إن كان الفيلم يعنيها أم لا؛ فالإفراج عن سجين محكوم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة تم بسهولة فائقة، بعد تدبير الأوراق "الرسمية" اللازمة، والممهورة بخاتم الدولة، بل والموصي عليه بأوراق صادرة عن أكبر جهاز سيادي في الدولة، وهو جهاز الاستخبارات العامة (!) والداخلية لا تملك سوي وسائل تقليدية للتأكد من الأوراق والتثبت من كونها وثائق رسمية لا تعدو كونها اتصالاً هاتفياً يجريه مأمور السجن، بينما يجلس النصاب المحترف والمزور العتيد هاديء البال ومرتاح الضمير؛ فشبكة الاتصالات الخاصة بالسجن؛ أي الداخلية،تحت السيطرة (!) وأحد مساعديه يتولي مهمة اختراقها بسهولة ليطمئن المأمور الغلبان علي أن "كل شيء تمام"، وأن عليه أن يسلم السجين لمندوب الاستخبارات طرفه تمهيداً لقيامه بتنفيذ مهمة استخباراتية لصالح الوطن (!) وهو مايعني أيضاَ أن التنسيق بين أجهزة الدولة غائب تماماً، وكلُ منها في واد، بل "كل يبكي علي ليلاه"، ويعني، وهنا الرسالة الأخطر، أن أمن الوطن، وسلمه الاجتماعي، مهدد بقوة؛ فإذا كان الاختراق قد امتد إلي أماكن حساسة بهذا الشكل فما بالك بالمواطن البسيط أو رجل الشارع الذي لا يملك من أمره شيئاً، ولا يتورع عن تقديم نفسه في أي لحظة يطلب فيها منه خدمة الوطن، بعد اقناعه بأنه سيتحول إلي بطل، وبعد أن يدفع الثمن غالياً، يكتفي بأن يصبح "بطلاً في الظل" يعيش في أمان، وهو المصير الذي انتهي بالبطل والرسالة التي اختتم بها الفيلم أحداثه، الذي مازلت أسأل نفسي حائراً :"هل تعمد تمرير هذه الرسائل المهمة، وعلي رأسها التحذير من خطورة اختراق أهم أجهزة الدولة، أم أراد صانعوه فيلماً بسيطاً ومتقن الصنع يخلق جواً من التشويق والإثارة والغموض أحياناً، ومازال يطارده الاتهام بأنه مقتبس عن السينما الأمريكية، لكنه لم يتبن أي رسالة أخري، ومن يدعي هذا فعليه أن يثبت هذا بنفسه، وإلا كانت وجهة نظره مجرد إدعاء وتحميل للفيلم بأكثر مما يطيق!