كلمة المشروع هي كلمة السر في مشروع اتحاد المتوسط الذي سوف يقوم من وجهة نظر ساركوزي علي مجموعة واسعة من المشاريع الاقليمية الكبيرة التي يتبناها الاتحاد وسوف تأتي السياسة بعد ذلك من ورائها وليس قبلها. برغم ان مشروع اتحاد المتوسط علي وشك ان يصبح حقيقة سياسية في يوليو المقبل، الا ان النقاش العام حوله ما زال ضعيفا او غير موجود علي الاطلاق . كثير من الناس ينظرون اليه بوصفه من تلك النوعية من المبادرات التي تنطلق من آن الي اخر ثم يخبو بريقها بعد شهور او سنوات بغير ان تحدث تغييرا في واقع الحال فتضاف الي ما سبقها من مبادرات قديمة، خاصة وقد اصبح من المعتاد القول بان وجود المبادرة في حد ذاتها يعتبر انجازا، وان النتائج الملموسة سوف تأتي مع الوقت حتي في غيبة خطة ملزمة، او تمويل متوافر، او ظروف سياسية مواتية. ومشروع اتحاد المتوسط لمن لا يعرف هو مشروع نادي به نيكولا ساركوزي في حملة انتخابه رئيسا لفرنسا، وظن البعض انه مجرد كلام انتخابات سوف ينساه الناس في النهاية خاصة انه من امور الخارج وليس الداخل الفرنسي. الا ان ساركوزي لم ينسه، وجعله في شهور قليلة احد المحاور الرئيسية لسياسة فرنسا الخارجية. وفي حقيقة الامر وجدت نفسي وجها لوجه مع مشروع اتحاد المتوسط بدون ان اخطط للكتابة عنه. فقد كنت في عملية استكشاف للمتغيرات التي ألمت بالسياسة الخارجية والدفاعية الفرنسية في عهد الرئيس ساركوزي ، ونيته في العودة بفرنسا الي القيادة العسكرية للناتو، فرأيت ان أكتب عن الظروف التي ادت الي انسحاب فرنسا من الهيكل العسكري للحلف، وموقف فرنسا من التحالف الاطلسي والذي ظل معها لم يتغير حتي انتهاء رئاسة شيراك. وفي ضوء ذلك كان من الممكن التعرف علي سياسات ساركوزي الجديدة، وعلاقاته مع الولاياتالمتحدة ، ورؤيته بالنسبة للسياسة الدفاعية الاوروبية، الا ان ذلك لن يكون كاملا بدون التعرف علي مشروع ساركوزي المتوسطي ودعوته الي اقامة اتحاد المتوسط والذي يختلف في جوهره عن عملية برشلونة التي بدأت في 1995. وقد كان اعتقادي ان مشروع المتوسط ليس به جديد، الا ان حركة ساركوزي وايقاعه السريع، وحركته الدولية والاقليمية التي لا تهدأ، غيرت من انطباعي ورأيت انه من الضروري اعادة قراءة فكر ساركوزي المتوسطي خاصة ان ميعاد الاعلان عن اتحاد المتوسط قد اصبح علي الابواب. ينطلق ساركوزي من اعتقاد ان دور فرنسا لن يكون مؤثرا بدون اتحاد اوروبي قوي، ولن يكون الاتحاد الاوروبي قويا بدون استقرار ورخاء في جواره الشرقي والجنوبي. وفي النهاية ولحسن حظ فرنسا انها كانت مشاركة بقوة في عملية بناء الاتحاد الاوروبي وتحويل فضائه الواسع الي منطقة سلام ورخاء، ولم يكن السلام ولا الرخاء موجودا في اوروبا حتي بعد الحرب العالمية الثانية. كما ان فرنسا كانت مشاركة في احداث تغييرات جذرية في اقليم اوروبا الشرقية وانضمام معظم دوله الي الاتحاد الاوروبي وحلف الناتو. ويبقي امام فرنسا واوروبا جنوب وشرق المتوسط الذي لم يتغير بالدرجة المطلوبة برغم مشاريع عربية كثيرة اقيمت معه، كما ان السلام والاستقرار ما زالا غائبين عنه بسبب مشكلات مزمنة لم تحل، او بسبب تهديدات الارهاب وانعدام كفاءة الحكم وفشل السياسات الاقتصادية والاجتماعية. وفي حديث امام طلبة المعهد القومي للعلوم التطبيقية والتكنولوجيا بتونس، شرح ساركوزي فكرته عن اتحاد المتوسط باستفاضة - ابريل 2008. والنقطة الجوهرية في فكرة ساركوزي انه يعني بالفعل اتحادا للمتوسط، وليس حوارا او مشاركة. اتحاد سوف يرأسه دوريا رئيسان، واحد من الجنوب -جنوب المتوسط- والثاني من الشمال، وله سكرتارية معقولة الحجم وينتظر ان يكون مقره في الجنوب وليس في الشمال. ولا يعني ذلك ان الامر سوف يأخذ صورة الاتحاد الاوروبي مرة واحدة، ولكنه سوف يتطور بقدر انجازه الحقيقي علي ارض الواقع، والذي سوف يتحمل مسئوليته بالتساوي دول الشمال مع دول الجنوب. وعندما سألوا ساركوزي عن كيفية تغيير الحال في جنوب وشرق المتوسط قال "سوف نبدأ معهم كما بدأنا نحن منذ ستين سنة". ومن الناحية الفكرية يقوم مشروع ساركوزي علي اربعة مفاهيم رئيسية: المفهوم الاول ان تغيير الواقع يجب ان يسبق تفكير الناس وليس العكس. وربما كان اختياره لمكان القاء حديثه في تونس موحيا بذلك. المكان معهد للعلوم والتكنولوجيا بمساهمة فرنسية قوية. وايضا طريقته في حل مشكلة الممرضات البلغاريات في ليبيا. وفي حديثه تركيز غير معتاد علي التدريب، فهو لا يري معني حقيقيا للعلم بدون تدريب الناس والمدرسين والعلماء والاطباء الخ، فالعلم شيء والتدريب شيء اخر. فالتدريب يعني جودة الممارسة، والتعامل مع حقيقة الامور وليس شكلها الخارجي فقط. ويذكرني ذلك بصفر المونديال في مصر، وحالة المرور، وطرق التعليم، ونظافة العاصمة، وكل شيء تقريبا حيث التدريب وليس العلم نفسه هو الجسر بين الحضارة والفوضي. ويري ساركوزي ان البربرية - ويقصد بها الارهاب والتعصب- لا تنتشر الا في مجتمعات ينقصها التدريب وليس المعرفة. والمفهوم الثاني ان المشروع المشترك يجب ان يسبق المصالحة في الاقليم والمجتمع. ويدلل علي ذلك بان اجيال الفرنسيين الذين سبقوه كانوا علي درجة عالية من كراهية الالمان. وان فكرة المشاركة في مشروع الحديد والفحم لبناء اوروبا المهدمة بعد الحرب كان الطريق الي المصالحة وتغيير ما في النفوس، وليس العمل السياسي او الكلمات المنمقة المجردة. واشار ايضا الي مشروع اليورانيوم والعمل الاوروبي المشترك في مجال التكنولوجيا النووية السلمية. وأضيف من عندي الي ما ذكره ساركوزي ، وكالة الفضاء الاوروبية، والصاروخ الاويان ومشروع جاليليو لتحديد المكان والزمن للاشياء المتحركة، مثل مشروع الجي بي اس الامريكي الشهير. وكلمة المشروع هي كلمة السر في مشروع اتحاد المتوسط الذي سوف يقوم من وجهة نظر ساركوزي علي مجموعة واسعة من المشاريع الاقليمية الكبيرة التي يتبناها الاتحاد وسوف تأتي السياسة بعد ذلك من ورائها وليس قبلها. ومن هذا المفهوم يغمز الكثيرون فكرة اتحاد المتوسط حيث يعتبره البعض بوابة جانبية للتطبيع المجاني مع اسرائيل، كما ان مشاريع مماثلة قد قامت بين الدول العربية وحدها او بينها وبين الدول الافريقية. المفهوم الثالث المساواة في المسئولية والتكلفة. ويري ساركوزي ان عملية برشلونة لم يكن فيها شيء من المشاركة. فالافكار تأتي من الشمال وفي معظم الحالات يهملها الجنوب ويصفها بوصاية من الغريب عليه. وهو يقول ان المال لا يأتي قبل المشروع ولكن العكس. المشروع الناجح مهما كان نوعه سوف يجد الكثيرين الذين يرغبون في تمويله، ويقترح ساركوزي في خطابه عددا من المشاريع المهمة والتي تتطلب مشاركة من الجميع. يبدأ او يحلم بمشروع للمياه يغطي النقص الخطير للمياه النقية في دول جنوب المتوسط. ويري ساركوزي في هذا المشروع بعدا تكنولوجيا وانسانيا وصناعيا في منطقة تتوافر فيها الطاقة واشعة الشمس طوال العام تقريبا ان جهدا حقيقيا جادا في هذا الموضوع يمكن ان يحدث ثورة حقيقية في اقليم المتوسط. وقد نجح ساركوزي في اقناع تركيا بالانضمام الي اتحاد المتوسط بضمان من فرنسا والاتحاد الاوروبي ان ذلك لن يكون بديلا عن انضمام تركيا الي اوروبا. ونتخيل المشاركة الضخمة من رجال الاعمال والمراكز البحثية والبنوك في مثل هذا العمل العملاق اذا اأدير بطريقة اقتصادية سليمة. تكلم ساركوزي ايضا عن مشروع تنظيف البحر المتوسط وانقاذه من كارثة بيئية اذا استمر الحال كما هو عليه. كما اشار الي الطاقة الشمسية في ظل ازمة النفط الحالية ويري ان اقليم المتوسط يمكنه النجاح في الاستفادة من الطاقة الشمسية علي نطاق واسع وتحويل حجم استغلالها من الهامش الي قلب الاستهلاك الرئيسي للطاقة باختصار يريد ساركوزي تعبئة الشمس في زجاجات اذا استعرنا التعبير المصري الدارج. ويقترح وكالة نووية يشارك فيها الشمال مع الجنوب في استخدام الطاقة النووية السلمية علي نطاق اقليمي واسع، حيث تقل التكلفة والمخاطر، وتهدأ المخاوف الامنية الناتجة من النشاطات المنفردة المختفية وراء الستار. ثم يتكلم عن تنظيم مشترك للجامعات، بل يذهب الي درجة اقتراح ان يكون لكل طالب في الاقليم مهما كان بلده حق الانضمام الي اية جامعة في الشمال او الجنوب اذا استوفي الشروط العلمية. ويقترح وكالة للتوظيف علي مستوي الاتحاد للتعامل مع مشكلة البطالة. وهناك مشكلة الهجرة ومعالجتها جماعيا من منطلق المسئولية والمصلحة المشتركة. وهناك من يري مشروع ساركوزي بوصفه مشروعا خياليا لكني اراه واقعيا جدا، فكل ما يحتاجه عزيمة سياسية والنظر الي السياسة من زاوية مصلحة الناس او ما ينفع الناس. ومنذ سنوات كان عندما يطلب مني ورقة عن امن المتوسط او الخليج او الشرق الاوسط كنت اتعمد حشر موضوع البنية التحتية الاقليمية وكانت تلفت انظار البعض. وكنت اعطي المثل بمشاريع الطرق الاقليمية في شمال مصر، والكباري العملاقة علي قناة السويس، وربط شبكات الكهرباء والغاز مع الاردن، واقول اننا في الجنوب مقارنة بالاتحاد الاوروبي ينقصنا الكثير من الطرق والمطارات وشبكات الطاقة والمعلومات. واحلم كما يحلم ساركوزي بقطار الشرق السريع في قصة اجاثا كريستي الشهيرة حيث يخرج القطار من القاهرة ويعبر قناة السويس الي فلسطين، فسوريا فاسطنبول الي باريس وداخل النفق الي نهاية الرحلة الطويلة في لندن.