يوم الاثنين 31 (مارس) الماضي، قتل جنديان من البحرية البريطانية وجندي دانماركي آخر في تبادل لإطلاق النار مع مقاتلي حركة "طالبان" في إقليم هلمند جنوبأفغانستان. وقد رفع ذلك عدد الجنود الدوليين الذين قتلوا في أفغانستان خلال هذه السنة إلي ما يزيد علي 30 جندياً. ما القضية النبيلة التي قتل في سبيلها هؤلاء الشبان؟ ناقش رؤساء الدول الاعضاء في الحلف الاطلسي خلال القمة التي عقدوها في بوخارست هذا الاسبوع كيفية تعزيز جهود الحلف في الحرب في أفغانستان. وكان الأجدي بهم مناقشة كيفية التوصل إلي تسوية سلام مع المتمردين، وكيفية الخروج من هذا البلد. من الواضح أن الحلف الأطلسي أدخل نفسه في مستنقع موحل ضخم في أفغانستان. وكل ما كان يمكن أن يجري بطريقة خاطئة حدث. ومن غير الواضح علي الإطلاق لماذا يحارب الحلف هناك، وما الهدف الذي يسعي إلي تحقيقه. فالحديث عن "الانتصار" هو وهم خطير. سنة 2003، بلغ عدد القوات الأجنبية في أفغانستان 20 ألف جندي. وبحلول سنة 2007، زاد هذا العدد ثلاثة أضعاف وبلغ 60 ألف جندي - ومن المتوقع أن يرتفع هذا العدد قريبا مع وصول 3200 جندي من البحرية الأمريكية إلي جانب ألف جندي فرنسي آخر (كما تعهد الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي وأثار بذلك غضب المعارضة الاشتراكية واستياءها. وقد اختار أن يعلن هذا التعهد في البرلمان البريطاني، خلال زيارته الرسمية الأخيرة إلي بريطانيا، بدل إعلانه في البرلمان الفرنسي، وهو الأمر الذي لم يدعم موقفه). هل ساهمت زيادة عديد الجنود في إرساء الأمن في افغانستان؟ هل انطلقت عملية السلام؟ هل أحرزت عملية إعادة إعمار وتطوير البلاد التي مزقتها الحرب أي تقدّم؟ هل تمّ القضاء علي زراعة الأفيون، أو علي الأقل تم الحدّ منها؟ للأسف ما حصل هو عكس ذلك. ازدادت وتيرة العنف والموت علي نحو مضطرد خلال السنوات الخمس الماضية، في ظل تعرّض القوات الأجنبية إلي اعتداءات بمعدّل 500 اعتداء شهريا. سنة 2007، لم تقلّ الاعتداءات عن 140 عملية انتحارية - وهي أكثر الاعتداءات قتلا وإثارةً للخوف. وبما أن الغربيين هم الأكثر عرضة للاعتداءات، فهم يعيشون في خوف، ويقيدون حركتهم، وبالتالي ليس بمقدورهم المساهمة في إعادة الإعمار والتطوير. وبعيداً عن القضاء علي زراعة الأفيون، فقد ازداد الإنتاج سنة بعد سنة، في حين أن الاتجار بالمخدرات آخذ بالازدهار. لعلّ أي شخص يعرف القليل عن أفغانستان يدرك أنه بلد غالبية سكانه من المسلمين، وهم شديدو التمسّك بعاداتهم وتقاليدهم. إنه بلد القبائل والعشائر وأمراء الحرب، إنه بلد الجبال والصحاري. أما ما يجمع الأفغان فهو الكبرياء والتعلّق الشديد ببلادهم - إضافةً إلي كره أعمي لأي هيمنة أجنبية. انها أمثولة تعلمّها البريطانيون ودفعوا ثمنها خلال القرن التاسع عشر والسوفييات خلال الثمانينيات. وهي أمثولة أليمة يتعلمها كل من الولاياتالمتحدةالأمريكية والحلف الأطلسي بدورهما. يعتقد المتخصص الفرنسي البارز في ملف أفغانستان، الأستاذ الجامعي جيل دورونسورو، أن الخطأ الفادح الأساسي الذي ارتكبه الحلف الأطلسي هو محاولته فرض نموذج تحديث غربي علي أفغانستان، حيث ينظر الي ذلك بصورة حتمية باعتباره بضاعة مستوردة. قد تتبني نخبة صغيرة في كابول أهداف الديمقراطية واقتصاد السوق والمساواة بين الجنسين، إلا أنه سيتم رفضها في غالبية المناطق الريفية، اذ انها تواجه عدم الفهم والعداء. وتعتبر دولة حامد كرزاي وهماً. فهي لا تسيطر سوي علي 30 بالمائة من الأراضي - أما الباقي فيقع تحت قبضة أمراء الحرب أو المتمردين - في حين أن سيطرتها علي الاقتصاد هي سيطرة هشة. في أفغانستان، الإسلام الأصولي هو شكل من أشكال القومية، ولا يمكن التمييز بينهما. قد يسعي الغرب إلي تصوير اعضاء "طالبان" علي انهم يشبهون برابرة القرون الوسطي، ولا علاقة لهم بالمجتمع الأفغاني. إلا أن الحقيقة هي انهم منتج محلّي بالفعل. ورغم أن تمردهم بدأ أساساً بين قبائل البشتون، إلا أنه انتشر إلي خارج مناطقهم، في إشارة إلي الدعم المتزايد ل "طالبان". سنة 2006 - 2007، حدث تغير لافت في الشعور العام في أفغانستان، فقد سيطرت فكرة مفادها أن الحلف الأطلسي والأمريكيين يخسرون الحرب. وكان يفترض بهذا الأمر وحده أن يقنع رؤساء الدول المجتمعين في بوخارست هذا الأسبوع أن الوقت حان لإنهاء هذه المغامرة الاستعمارية الجديدة غير المشكورة. وتفيد إحصائية مثيرة للدهشة أن القوات الأمريكية في أفغانستان تكلّف دافع الضرائب الأمريكي مائة مليون دولار يوميا - أو بالحسابات الحالية، 36 بليون دولار سنويا. ومنذ سنة 2001، أنفقت الولاياتالمتحدة 127 بليون دولار علي الحرب في أفغانستان. ولا شكّ أن هدر الموارد هذا مدعاة للأسف. في المقابل، بلغ إجمالي المساعدات الدولية إلي أفغانستان - والتي تعتمد حكومة كابول عليها بنسبة 90 بالمائة لتغطية نفقاتها - 7 ملايين دولار يوميا فقط منذ سنة 2001. نصف المساعدات لم يصل - وقد بلغ حجم النقص 5 بلايين دولار - في حين أن ثلثي المساعدة لم يتم تمريرها عبر المؤسسات الحكومية إطلاقاً، فقد تم تبذير الكثير من هذه الأموال بشكل غير فعال أو تم تحويلها إلي الحسابات الخاصة. وكانت النتيجة تفشي الفساد، الذي يظهر جلياً في حركة بناء المنازل التي تبلغ كلفتها ملايين الدولارات في كابول. لقد نقلت هذه الوقائع والأرقام من تقرير حديث صادر عن هيئة التنسيق بين الوكالات لإغاثة الأفغان والتي أوكلت إليها المهمة الصعبة لتنسيق عمل 94 منظمة غير حكومية عاملة في أفغانستان، ومنها منظمات غير حكومية علي غرار "أوكسفام" و "كير". ما يظهره تقرير هيئة التنسيق بين الوكالات لإغاثة الأفغان بوضوح بالغ هو أن ما يقارب 40 بالمائة من أموال المساعدات تعود أدراجها إلي البلدان المانحة، بطريقة أو بأخري، وبنحوٍ أساسي علي شكل أجور لرعاياها. والحال ان أتعاب مستشار أجنبي قد تتراوح بين 250 ألف دولار و500 ألف دولار سنوياً. إذا كان السعي لفرض نموذج غربي علي أفغانستان يؤدي إلي استفزاز معارضة محلية، فإن مصدراً اكبر للعداء يكمن في اللجوء الواسع النطاق إلي الضربات الجوية، ولا سيما من قبل القوات الأمريكية، فقد سقطت ملايين أطنان القذائف علي أفغانستان في إطار سياسة "قتل العدو". وتسببت هذه الضربات حتميا بمقتل مئات المدنيين الأفغان إلي جانب إحداث "أضرار إضافية" مادية، فاقتحام المنازل وتجاهل العادات المحلية وإظهار عدم الاحترام لعامّة الأفغان، أدت أيضا إلي غضب واسع. وتمثّلت النتيجة بدفع قسم كبير من الشعب إلي جانب "طالبان". وكما هي الحال في العراق، وبعيدا عن إحلال السلام فيه، ادت الاستراتيجية الأمريكية الي قيام عدو مصمم علي الانتقام. يسري حديث علي نطاق واسع في واشنطن هذه الأيام عن نقل الحرب إلي المناطق القبلية التي تسيطر عليها "طالبان" في غرب باكستان. وحاليا لا تميز الضربات الجوية الأمريكية بين حدود أفغانستانوباكستان، وكأن هذه الحدود لم تعد موجودة. وبلغ الأمر حتي بباراك أوباما، المرشح المتقدم عن الحزب الديمقراطي للرئاسة الامريكية والناقد الصارم للحرب علي العراق، أن يتحدّث عن "تنظيف" المناطق القبلية الباكستانية. هذا كلام خطير. ففي باكستان تقوم معارضة غاضبة علي حملة الحلف الأطلسي في أفغانستان، وبشكلٍ عام، علي "الحرب علي الإرهاب" التي يشنها الرئيس جورج بوش. ويعتقد بعض الخبراء أن أي غزو بري غربي واسع النطاق للمناطق القبلية الباكستانية قد يؤدي إلي انقسام الجيش الباكستاني، وسقوط الرئيس مشرّف, ووضع حدّ لأي تعاون مع الغرب في مجال الأمن. خلال زيارة إلي إسلام أباد في نهاية مارس الماضي، فوجئ نائب وزير الخارجية الأمريكي، جون نيجروبونتي، لسماعه أن زعماء الائتلاف الحكومي الجديد في باكستان - رئيس الوزراء السابق نواز شريف وآصف علي زرداري (زوج رئيسة حزب الشعب الباكستاني الراحلة بينظير بوتو) يريدان التحاور مع "طالبان" بدل اعتماد الضربات العسكرية. وأفيد عن نيجروبونتي قوله إن "الأمر يتعلق بالتعامل مع عناصر غير مسالمة تريد تدمير طريقة عيشنا. ولا أفهم كيف يمكن التحدث مع أمثال هؤلاء الأشخاص". ومن مصلحة الحلف الأطلسي وواشنطن معرفة كيفية القيام بذلك. وكلما تمّ ذلك عاجلا كان الأمر أفضل.