في التاريخ الماضي لإسرائيل لم يكن التهديد الموجه إليها بمثل التعقيد الذي تراه هي الآن. صحيح أن إسرائيل كانت تبالغ دائما في حجم التهديد المحيط بها ونوعه، إلا أن حربها الأخيرة مع حزب الله جعلتها تستيقظ علي أحلام مزعجة مختلفة عن أحلامها السابقة. في التسعينيات كانت إسرائيل تري التهديد قادما من دوائر ثلاث حولها. الأولي الدائرة الفلسطينية، وكانت قد دخلت معها في مشاريع سلام في ذلك الوقت لكنه كان سلاما هشا مُتعثر الخطي. والثانية كانت مكونة من سوريا والعراق، ولم يستبعد من هذه الدائرة دول مثل السعودية والأردن ومصر برغم السلام مع الدولتين الأخيرتين فكانت عيون إسرائيل مفتوحة علي قدرات هذه الدول ومدي تطورها في القوة العسكرية. ثم الدائرة الثالثة حيث تصل إلي إيران وما خلفها من الدول الإسلامية مثل باكستان. ومن أجل دوائر التهديد الثلاث، طورت إسرائيل قدرات عسكرية متنوعة للتعامل ولمراقبة كل دائرة علي حدة. لكن أحداث 11 سبتمبر وما بعدها أحدثت فوضي عميقة في دوائر الأمن الإسرائيلية، فقد جاء التهديد صاعقا من الدائرة البعيدة موجها ليس لها ولكن إلي الولاياتالمتحدة حليفة إسرائيل الكبري. ثم تداخلت الدوائر في أفغانستان والعراق برغم بعد البلدين عن إسرائيل التي أبقت عيونها مستيقظة لتفاصيل الحرب الجارية هناك ونتائجها في المستقبل. حرب إسرائيل مع حزب الله في صيف 2006 كانت نموذجا واضحا لتداخل دوائر الأمن حولها واقتراب هذا التداخل من حدودها. في هذه الحرب كان حزب الله حاضرا، وكذلك كانت حماس، وسوريا وإيران؛ وأضيف إلي هذا المشهد البعد الصاروخي مُجسدا في إطار استراتيجي لم يكن مطروحا من قبل. عدد الصواريخ، وطريقة استخدامها، ومصدرها، انتقل بها من مجرد وسيلة إزعاج إلي تهديد ثقيل في ظل مساحة إسرائيل الصغيرة، وفي مواجهة خصم لا يعنيه كثيرا التداخل البشري بين الإسرائيليين والفلسطينيين العرب الحاملين للجنسية الإسرائيلية. وهي عقيدة في القتال علي استعداد للتضحية بآلاف من الأهل والأصدقاء من أجل مقتل فرد واحد من أفراد العدو. وهذا ما يحدث في العراق كل يوم، وما حدث في الأردن من قبل، وفي أماكن أخري كثيرة. هذه العقيدة القتالية جعلت من الصواريخ تهديدا استراتيجيا بالنسبة لإسرائيل، ودفعت بتصوراتها إلي إمكانية حدوث سيناريو كارثي لهجوم صاروخي متزامن قادم من أكثر من جهة في نقس الوقت، يصل حجمه إلي 500 صاروخ في الضربة الواحدة، ومن كل المديات القصيرة والمتوسطة والطويلة، محدثا حالة من الشلل والعجز والانهيار لنظم الإنذار والاعتراض والدفاع في إسرائيل. حرب 2006 ونتائجها سوف تشجع دولا كثيرة في المنطقة علي إعادة النظر في سلاح الصواريخ من حيث العدد والخصائص الفنية وأساليب القتال. وفي المقابل تبحث إسرائيل عن حل لهذه المعضلة في بعدها الجديد الذي لم تكن تتصوره من قبل. وقد خرجت إسرائيل من حرب 2006 بتجربة ثرية برغم تضررها من النتائج، وتحاول الآن الاستفادة من هذه التجربة في التخطيط للمستقبل. وقد أضيفت إلي تجربة لبنان الصاروخية، تجربة الصواريخ القادمة من غزة والتي وصلت معدلات إطلاقها طبقا للبيانات الإسرائيلية إلي مستويات عالية (أكثر من 200 صاروخ في الأسبوع الثاني من يناير الماضي وحده و 3000 صاروخ منذ بدأت غزة تطلق صواريخ علي إسرائيل). صحيح أن إسرائيل فشلت في اعتراض هذه الصواريخ قبل وصولها إلي الهدف، كما فشلت نسبيا في تدمير قواعد إطلاقها باستخدام الطيران، لكنها نجحت كما تقول التقارير في رصد طيران هذه الصواريخ بدقة الأمر الذي وفر لها قاعدة معلومات جيدة عن مسارات هذه الصواريخ بأنواعها المختلفة، وساعد علي بناء نظرية لكيفية التعامل والتصدي لمثل هذا النوع من الهجوم المكثف في العدد والزمن والمتعدد الطبقات _ أي القادم من مصادر ومسافات مختلفة. من الواضح أن إسرائيل قد نجحت في تخصيص ميزانية كبيرة لمواجهة مثل هذا السيناريو بعد أن كان التركيز في الإنفاق موجها من قبل إلي القوة الجوية استنادا إلي فكرة كانت سائدة بأن القوة الجوية قادرة علي إجهاض الضربة الصاروخية من خلال رصد وضرب قواعدها. لكن التجربة في لبنان وفي غزة أثبتت فشل ذلك، فما بالك إذا شاركت في الضربة صواريخ قادمة من سوريا وإيران في نفس الوقت. الاستراتيجية الجديدة لإسرائيل لمواجهة هذا الخطر قائمة علي فكرة الدفاع الاستراتيجي الصاروخي وليس الهجوم الجوي. وإذا كان توصيف التهديد الصاروخي الشامل الموجه إلي إسرائيل سيكون ناتجا من عدد هائل من الصواريخ في زمن قصير ومن مصادر مختلفة أي أنه متعدد الطبقات، فإن الرد عليه سيكون علي نفس المستوي، أي متعدد الطبقات أيضا. وهذا لا يعني بطبيعة الحال أن إسرائيل سوف تُهمل الهجوم علي قواعد الصواريخ، لكن التركيز الأساسي سيكون علي الدفاع متكاملا مع الهجوم الجوي. تمتلك إسرائيل حاليا قواعد لصواريخ الأرو المضاد للصواريخ. وقد تم تطوير الأرو مع الولاياتالمتحدة منذ الثمانينيات ومر بمراحل تطوير وتحسين. ويتم إنتاج أجزاء من هذا النظام داخل إسرائيل وفي الولاياتالمتحدة. ويمكن للأرو اعتراض صواريخ اسكود الباليستية المنتشرة في المنطقة، ويتميز بقدرته علي مقابلة الصواريخ واعتراضها علي مسافة 90 كم من قاعدة إطلاق الأرو. ومع التطوير الجاري بصفة مستمرة سوف يتمكن الأرو من اعتراض الصواريخ القادمة من دائرة أوسع من دائرة صواريخ سكود (من 300 _ 600 كم) إلي دائرة نصف قطرها يصل إلي 3000 كم وهو ما يعني القدرة علي اعتراض صواريخ تتحرك بسرعة أكبر ومن بينها صواريخ شهاب الإيرانية. وبشكل عام هناك تعاون عميق بين الصناعة ومراكز التطوير العسكرية في إسرائيل والولاياتالمتحدةالأمريكية في مجال الدفاع الصاروخي بصوره المختلفة. ومنذ حرب الخليج تمتلك إسرائيل بطاريات من صواريخ الباتريوت الأمريكية، وبعض هذه البطاريات يديرها عسكريون أمريكيون، وهناك مناورات بين البلدين في هذا المجال تحدث بصفة دورية، وتقوم علي تكامل أجهزة الإنذار المبكر الأرضية والفضائية بين البلدين. ويستطيع الباتريوت اعتراض صواريخ سكود القادمة من مسافة 300 كم حيث يعترضها علي ارتفاع 15 كم فقط من سطح الأرض أي قبل وصولها للهدف بلحظات قليلة. ونتائج الباتريوت في حرب الخليج 1991 لم تكن مبهرة، لكن أجريت عليه بعد ذلك تطويرات كثيرة وصلت به إلي باتريوت-باك3 وبه تحسينات جوهرية في الصاروخ وفي أجهزة التوجيه تمكنه من اعتراض الصواريخ القادمة من مسافة 500 كم. وإسرائيل تخطط لتطوير صواريخ الباتريوت الموجودة لديها أو شراء وحدات من صواريخ الباتريوت-باك3 من أمريكا مباشرة. وأخيرا، وللتصدي لصواريخ القسام القادمة من غزة، تم تخصيص 250 مليون دولار لتطوير النظام الدفاعي "القبعة الحديدية" Iron Cap ويطلق عليه أيضا "القبة الحديدية" Iron Dome وإعطاء هذا المشروع أولوية قصوي في التمويل والتنفيذ. ويقوم هذا النظام الدفاعي علي تطوير رادار دقيق للغاية، وقواذف للصواريخ، ووحدات قيادة وسيطرة، ثم الصواريخ الاعتراضية نفسها وستكون عالية السرعة قادرة علي الوصول إلي الصواريخ في زمن قصير جدا، ومن المعروف أن مشكلة اعتراض الصواريخ القادمة من غزة تنشأ من أن زمن طيرانها قصير للغاية. وإذا كان توصيف التهديد الصاروخي هذه المرة يقوم علي فكرة تعرض إسرائيل لهجوم شامل ومركب من صواريخ القسام وصواريخ سكود وصواريخ شهاب الإيرانية بكل أنواع وأجيال هذه الصواريخ، وفي نفس الوقت، فإسرائيل ستكون في حاجة إلي مركز قيادة وسيطرة يدير هذه المعركة الصاروخية بكل تفاصيلها المعقدة، وفي وقت قصير جدا يقاس بالثواني والدقائق. وسوف يصب في هذا المركز كل المعلومات القادمة من أجهزة الإنذار المبكر الأرضية والفضائية، وتدار المعركة فيه بصورة أتوماتيكية مع إمكانية التدخل البشري في القيادة إذا تطلبت ظروف المعركة ذلك. وهذا النموذج/السيناريو لم يفكر فيه أحد من قبل إلا في حرب النجوم، وربما نعود له مرة أخري.