في ختام زيارة وزير الدفاع الأمريكي روبرت جيتس يوم الخميس الماضي للمنطقة العربية خرج علي العالم بتصريح قال فيه " إن الولاياتالمتحدة ربما استهانت بمدي صعوبة اتفاق الزعماء السياسيين بالعراق علي تدابير خاصة بالمصالحة." وباختصار غير مخل يمكن القول إن اعتراف جيتس يعني مزيدا من استفحال المأساة في العراق وانه لا خلاص يبدو قريبا علي الأبواب من مأزق يكاد أن يقارب فيتنام في خسائره الأدبية والمادية. جاء ذلك التصريح بعد أن انسحبت جبهة التوافق العراقية وهي الكتلة السنية الرئيسية من حكومة رئيس الوزراء نوري المالكي التي يقودها الشيعة الأربعاء الماضي مما أبرز مدي صعوبة العلاقات بين المجموعات السياسية. وكان الزعماء العراقيون قد وعدوا بإقرار قوانين تعالج شكاوي الأقلية السنية مثل قانون لاقتسام عوائد الثروة النفطية وآخر لتخفيف القيود المفروضة علي التحاق الأعضاء السابقين في حزب البعث الذي كان يتزعمه الرئيس الراحل صدام حسين بالوظائف العامة. ولعل أفضل من عبر عن حقيقة المشهد المأساوي في العراق كان السيناتور جوزيف بايدن والذي قال إننا " سوف نلتقط الأمريكيين من علي سطوح مباني المنطقة الخضراء في بغداد التي ستتحول إلي سايجون ثانية " ، أما نظيره جون ماكين فيضيف " لقد رأيت المشهد من قبل.... رأيت جيشا مهزوما في فيتنام ورأيت كم من الوقت يحتاج الجيش المهزوم ليسترد عافيته ". والمؤكد انه مابين التصريحين يبقي العراق عالقا في مأزق سياسي وعسكري ومن علي البعد يقر جنرالات أمريكا ورجالات استخباراتها بان الهزيمة محققة وليس أدل علي تلك النتيجة الكابوسية من تصريح قائد القوات الأمريكية في العراق الجنرال ديفيد بتريوس من " أن معدل مكافحة التمرد يتراوح ما بين تسعة إلي عشرة أعوام". غير أن إدارة بوش لا تود أن تبدو أمام الأمريكيين كمن سلم بالهزيمة لذا فقد كانت الأممالمتحدة المفر الأخير... فماذا عن ذلك؟ بينما تتصاعد الضغوط عليها لبدء الانسحاب من العراق تلجأ واشنطن إلي المؤسسة الأممية معولة عليها في القيام بدور أساسي لإنقاذها من المستنقع المأساوي ، ولعله من متناقضات الأقدار أن واشنطن التي ضربت بالهيئة الأممية عبر الحائط يوم ذهبت بدون أي شرعية دولية لغزو العراق هي التي تحاول اليوم التعلق بأهدابها لانتشالها من وهدة الجحيم وفشل الانكسار. يكتب زلماي خليل زاد السفير الأمريكي في الأممالمتحدة عبر النيويورك تايمز ليؤكد علي أن المنظمة الدولية يمكنها أن تساعد في تدويل جهود إرساء الاستقرار في العراق معتبرا أنها تمتلك مزايا خاصة تؤهلها للقيام بدور الوسيط داخليا وخارجيا. و يشير زاد إلي " انه علي الرغم من أن المفكرين يمكن أن يختلفوا بشان ما إذا كان يتعين علي الولاياتالمتحدة التدخل ضد نظام صدام حسين فمن الواضح في هذه الآونة أن مستقبل العراق سيكون له تأثير عميق علي المنطقة وعلي السلام والاستقرار في العالم ، وان الأممالمتحدة يمكنها أن تتعامل مع الخلافات الداخلية بين العراقيين وعلي مستوي دول الجوار وأنها تمتلك من المرونة والشرعية ما يؤهلها للتحدث مع جميع الأطراف داخل العراق بما في ذلك من هم خارج العملية السياسية وان المنظمة الدولية تعد كذلك أفضل من ينسق عملا إقليميا لتأمين استقرار العراق. والتساؤل ماذا تحمل كلمات الرجل من معني ومبني؟ بادئ ذي بدء يمكن القول انه اعتراف صريح بفشل الأحادية الأمريكية المقيتة في العراق سيما وان كل كلمة في حديثه تتناقض بشكل واضح مع الحرب الكلامية التي دارت بين واشنطنوالأممالمتحدة قبيل غزو العراق وما بعد ذلك. والأمر الآخر هو أن زاد يلمح من طرف خفي إلي حتمية تعاون دول الجوار وبلهجة لا تخفي عن الناظر يلوح بعصا التهديد المتمثلة في إصابة امن واستقرار دول الجوار. وفي كل الأحوال يبقي زاد رجل أمريكا الذي خطط من قبل مع عصبة المحافظين الجدد بمفردهم واليوم يسعون لطلب العون والمدد الدولي غير أن الذاكرة الجمعية للأمم المتحدة والملفات السرية للرجل تؤشر إلي أن أحدا لن ينخدع بالمطلق بأطروحاته سواء المعسولة منها عن فاعلية الأممالمتحدة أو بتهديداته لدول الجوار وبخاصة أن العنف منتشر في كل الأحوال سواء بقيت القوات الأمريكية أو انسحبت . وخليل زاد لم يكن استقدامه من العراق إلي الأممالمتحدة فعلا عبثيا بل هو أمر مخطط له في سياق خطة الإنقاذ فهو من كان قد تم إحلاله من قبل محل جون نيجرو بونتي السفير الأمريكي السابق في الأممالمتحدة وفي العراق. كما أن خليل زاد كان ممثل الإدارة الأمريكية للتنسيق مع عملائها ممن سموا أنفسهم بالمعارضة العراقية عشية غزو العراق ، وتاريخ زاد طويل في كراهية العراق إذ معروف انه كتب دراسة مهمة لإدارة بوش الأب في أواخر الثمانينيات طالب فيها بشن حرب علي العراق متعللا " بان خروج العراق منتصرا علي إيران سيجعله القوة التي لا تنازع في المنطقة ولذا يجب عمل شيء ما لعدم حدوث ذلك ". ويطول الحديث عن الأدوار المشبوهة لزاد في حين يبقي حديث الساعة هل سينجح في دفع الكرة العراقية الملتهبة والمشتعلة في ملعب الأممالمتحدة؟ اغلب الظن أن تلك المحاولة لن تجدي نفعا والشاهد علي الحديث هنا وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية ذاتها والتي أقرت مؤخرا بان انعدام الاستقرار في العراق يستعصي علي الحل إذ يقول مايكل هايدن رئيس الوكالة بان " انسحابنا سيجعل الوضع أسوا " وبقاؤنا في العراق ربما لن يجعل الأمور أفضل واستمرار نهجنا من دون تعديل لن يجعل الأمور تسير نحو الأحسن ". ويشير الكاتب والصحفي الأمريكي بوب وود وورد الي أن هايدن وفي أحاديث الغرف المغلقة أكد أن الهوية العراقية غابت أمام حضور الهوية السنية أو الشيعية وان الأفضل ترك المتصارعين يتقاتلون فيما بينهم إلي حد الإنهاك. غير أن اتساع رقعة الصراع سواء داخل العراق أو خارجه لن ينتج عنه سوي أمر من اثنين فإما أن يتحول العراق إلي ملجأ وملاذ آمن للقاعدة وهذا يسري في حال البقاء والانسحاب وهو ما عبر عنه بوش بالقول " إن ذلك يعني سماحنا للإرهابيين بإقامة ملاذ آمن لهم للتعويض عن الملاذ الذي فقدوه في أفغانستان ، وإما أن يقع العراق في أحضان إيران والتي تجيد فن المساومة للخلاص من مواجهتها مع أمريكا من جراء برنامجها النووي". والمقطوع به انه بعيدا عن هواجس وتهديدات خليل زاد فان الوجود الإيراني الموسع في العراق سوف يقود إلي تدخل أوسع من جانب المملكة العربية السعودية وغيرها من الدول العربية السنية بما يرشح عنه اتساع رقعة الصراع ليشمل منطقة الخليج برمتها . والحاصل انه في كل الأحوال تتجلي في الآفاق نتيجة واحدة كارثية عبر عنها البروفيسور " تيموثي جارتون " من جامعة أكسفورد العريقة بقوله " إن أحدا لا يعلم بعد العواقب علي المدي البعيد لما يجري الآن في العراق. إلا أن العين البشرية تستطيع أن تري بوضوح أن تداعيات الأحداث الراهنة تتراوح بين السيئة والكارثية ويؤكد علي انه إذا رجعنا بالنظر لما مر بالعالم في ربع القرن الماضي لن نجد كارثة من صنع الإنسان اشمل وأعمق من كارثة العراق. والشاهد أن لا احد يملك اليوم في أمريكا رؤية لمخرج حقيقي في ظل أجواء يسود فيها شعور بان حرب العراق قضية خاسرة والسؤال الحقيقي ليس ما إذا كان باستطاعة أمريكا أن تفوز بل كيف يمكنها الانسحاب بكرامة حتي لا تتكرر مهانة سيجون من جديد؟ ربما تكون الإجابة عند جماعات تقسيم العراق وربما تكون أحاديث زاد عن وساطة الأممالمتحدة مقدمة خفية ضمن الأجندة السرية الأمريكية لإعلان وفاة العراق القديم الموحد وإعلان زمن العراق المقسم. ويبقي قبل الانصراف القول هل جاء إقرار وزير الدفاع الأمريكي متأخرا بعد أن سبق السيف العزل؟ المؤكد أن الإجابة معلومة بشكل مؤكد ومحدد لدي دوائر البنتاجون والبيت الأبيض الذين ينتظرون حلول شهر سبتمبر وتسلم تقرير الجنرال بترايوس ومن ثم التفكير في استراتيجية جديدة للعراق حيث لا تفلح الاستراتيجيات.