كلما حاضر الزعماء الروس عن أهمية الديمقراطية وأكدوا علي حماية القيم والمبادئ الديمقراطية، كلما ازدادت الديمقراطية في الحياة الروسية الفعلية ضعفاً. فعندما ودعت موسكو الإصلاحي والديمقراطي الروسي البارز "بوريس يلتسين" الشهر الماضي، قال لي العديد من الناس إن يلتسن ليس الوحيد الذي دُفن في مقبرة "نوفوديفيتشي"، وإنما الحرية الروسية أيضاً. فقد تعرضت الديمقراطية الروسية الفتية، التي انتزعها الشعب الروسي من أيدي الشيوعيين، للتدمير بشكل كامل تقريباً في عهد الرئيس فلاديمير بوتين؛ وتم القضاء عليها تدريجياً، عبر حقنات قاتلة صغيرة في جسمها الضعيف. لكن، لماذا تخلي الروس بسهولة عن حريتهم وحقوقهم الدستورية؟ وهل تخلينا عن حريتنا كلعبة قديمة لم تعد تعجبنا، أم تراها سُلبت منا ذات ليلة من ليالي الشتاء الطويلة؟ لا هذا ولا ذاك، فكل ما في الأمر أن الحرية استُبدلت بشيء آخر. ففي صفقة غير مسبوقة، تمت المجازفة بالحرية مقابل النمو الاقتصادي ونمو الدخل الفردي؛ حيث ارتفع الناتج الروسي الداخلي الإجمالي خلال السنوات السبع الماضية بستين في المئة تقريباً، وتضاعف معه دخل المواطنين. ونتيجة لذلك، يبدو الروس اليوم متسامحين جداً مع فقدان الحقوق المدينة والاجتماعية. فمنذ عام 2000، بدأ المواطنون الروس يفقدون تدريجياً حقوقهم الدستورية في انتخاب الحكومة ومراقبتها. ففقدوا مثلاً الحق في انتخاب الحكام الذين باتوا يعينون اليوم من قبل الرئيس. كما خضعت انتخابات "الدوما" (البرلمان) بدورها لتغييرات كبيرة. ففي ديسمبر المقبل، من المنتظر أن يتم انتخاب جميع أعضاء "الدوما" (450 عضواً) من اللوائح الحزبية، ما يعني إلغاء الانتخابات المباشرة لأعضاء البرلمان لأول مرة في تاريخ روسيا. وبذلك، يمكن القول إن الانتخابات المقبلة لن تكون مختلفة في شيء عن "انتخابات" مجلس السوفييت القديم. حيث سيختار المواطنون الروس ممثليهم من عدة أحزاب، كلها حصلت مسبقاً علي موافقة "الكريملين". وبالتالي، فالأمر لا يتعلق هنا باختيار حر، وإنما باختيار مفروض. في عهد ميخائيل جورباتشوف وبوريس يلتسن، رحب الروس بمبادئ حرية المعلومات والانفتاح والصحافة والنشر المستقلين. وعلي التليفزيون الروسي، الذي كان يمثل المصدر الرئيسي للأخبار بالنسبة للأغلبية العظمي من الروس، ازدهرت البرامج السياسية التي كانت تنقل وجهات نظر مختلفة وانتقادات للحكومة. أما اليوم، فقد أصبح كل ذلك من الماضي؛ حيث يحرم الساسة المعارضون من الظهور علي التليفزيون. وأصبحت وسائل الإعلام من جديد، وعلي غرار الفترة السوفيتية، وسائل للبروباجندا. علاوة علي ذلك، يوجد في روسيا اليوم، ولأول مرة منذ عام 1989، معتقلون سياسيون. فإلي جانب ميكايل خودوركوفسكي وبلاتون ليبيديف المشهورين عالمياً، ثمة زعماء معارضة شباب حُكم عليهم بفترات سجن مختلفة لأنهم شاركوا في احتجاجات سلمية ضد النظام، وإن كانت محظورة. يضاف إلي ذلك اتجاهٌ جديد مثير للقلق يتمثل في إدخال مفهوم "التطرف" الغامض والفضفاض في التشريع القانوني، بمعني أن أي شخص ينتقد الحكومة أو يشارك في احتجاجات سلمية يمكن اعتباره "متطرفاً". كما تم مؤخراً اعتماد قانون جديد يكرس القيود المفروضة علي المنظمات غير الحكومية، الروسية منها والأجنبية. وإلي ذلك، وقع العديد من المواطنين والصحفيين الروس الشهر الماضي ضحايا لوحشية الشرطة الخاصة، أو كانوا شاهدين عليها، حيث عمد أفراد هذه الشرطة إلي ضرب واعتقال المتظاهرين السلميين، بل والمارة أيضاً. فتم اعتقال ما لا يقل عن 700 شخص وتعرض 80 آخرين للضرب في موسكو وسان بطرسبورج. وقد استعمل الكريملين، الذي يخشي حدوث نسخة روسية ل "الثورة البرتقالية" التي شهدتها أوكرانيا، الهراوات لينزع من رؤوس المواطنين الروس فكرة الاحتجاجات الجماهيرية، ورسخ في رؤوسهم مرة أخري فكرة مفادها أنهم ليسوا سوي رعايا منساقين لإمبراطورية قاسية. من أجل مواجهة التحديات المختلفة، علي روسيا أن تتغير؛ إذ يجب إعادة إحياء المؤسسات الديمقراطية لوضع الحكومة تحت مراقبة فعلية والحد من الفساد. كما يجب اعتماد إصلاحات هيكلية عاجلة في الاقتصاد، إضافة إلي سياسة فعالة بهدف الحد من الاحتكار وتشجيع الانفتاح والمنافسة. إضافة إلي ذلك، يحتاج المجال الاجتماعي إلي جهود عاجلة للنهوض ب "الرأسمال البشري"، ومواجهة الطبقية الاجتماعية والفقر والظلم. نائب في "الدوما"، وزعيم "الحزب الجمهوري" الروسي الذي حظرته السلطات الربيع الماضي