بحكم المهنة، وبسبب الأحداث الدامية الجارية في لبنان وفلسطين، فإن متابعة ما يقال ويذاع وينشر علي جانبي المعركة هي مسألة أساسية للتحليل السليم القائم علي معطيات ووقائع ومعلومات. والملاحظة الأساسية علي هذه المتابعة هي التباين الشديد بين طريقة تناول الإعلام الإسرائيلي لما يجري وطريقة تناول الإعلام العربي رغم اتفاق كليهما في التوجه لتأييد الجانب الذي يقف فيه فتحظي دولة إسرائيل بتأييد عام من الإعلام الإسرائيلي بينما يلقي حزب الله ولبنان التأييد من الإعلام العربي. ومع ذلك فإن التباين واضح تماما في أوجه متعددة جوهرها أن الإعلام الإسرائيلي يسير علي طريقة "صديقك من صدقك" لا من صدقك - مع قبول الخروج عن الساحة كلية. أما الإعلام العربي فهو يقوم علي التعبئة والتأييد المطلق ونصرة حزب الله في كل الحالات مع اعتبار أن كل من خرج عن الصف أو كان له رأي مختلف، مواليا للأعداء بشكل أو بآخر أو خارجا عن الدين والملة بطريقة أو بأخري!! ومن التعميم إلي التفصيل، فإن الجماعة الفكرية الإسرائيلية - يمينا ويسارا - لا تسلم مصير أهلها لأحد، أو تعطيه شيكا علي بياض، في أمر من أمور الأمن القومي في لحظات مصيرية. ولذلك فإن فحص خطة أولمرت وتطبيقاتها الاستراتيجية والتكتيكية جارية طوال الوقت من محللين عسكريين محترفين كان لهم في يوم من الأيام خبرة عسكرية حقيقية، وهم لا يقومون بذلك استنادا إلي انطباعات أو رغبة في التعبئة الوطنية لأن ذلك مهمة مؤسسات أخري، وإنما استنادا إلي معلومات تقدمها الأجهزة الرسمية ويعرف هؤلاء ما يستحق أن يذاع وما لا يستحق. ولكن علي ناحيتنا فإن الأمور لا تجري فقط من أجل التعبئة النفسية وتصفية الحسابات الداخلية، وإنما أيضا كنوع من الموسيقي التصويرية والمؤثرات الخاصة في دراما مصيرية. وفي هذا السياق فإن الفحص لا يجري إلا للجانب الآخر، أما جانبنا فهو يظل عاريا بلا تغطية فكرية ناقدة؛ فنحن نعرف الخطط الإسرائيلية والأمريكية ولكننا لا نعرف أبدا ما هي خططنا نحن وما هي استراتيجيتنا في المعركة. خذ مثلا وعلي سبيل المثال تلك المقابلات التي أجرتها قناة الجزيرة في قطر مع كل من السيدين سماحة الشيخ حسن نصر الله وخالد مشعل، وهما القيادات العليا في كل من منظمة حماس وحزب الله، وكلاهما الطرف العربي في المعركة الراهنة. وأثناء المقابلة قضي كل منهما وقتا غير قليل في شرح أن خطف الجنود الإسرائيليين لم يكن هو السبب في المعركة الراهنة، وإنما المسألة هي أن إسرائيل كانت لديها نية مبيتة للقيام بهذه المعركة بما فيها القيام بالأعمال الوحشية والبربرية التي تقوم بها. وإلي هنا فإن الإجابات تبدو معقولة، بل انها هي الأقرب علي العقل في البلدان المتقدمة في العموم حيث توجد دائما خطط جاهزة للتطبيق عندما يأتي وقتها، ولكن المدهش في المقابلات كان أن السائلين لم يطرحا أبدا السؤال الجوهري عن خطة حزب الله أو جماعة حماس، أم انه لا توجد خطة علي الإطلاق. ومن المرجح تماما أنه كانت هناك خطة، بدليل أن كليهما أبلي بلاء حسنا في المعركة، وهو ما يعني أننا لسنا أمام طرف له نيات مبيتة وإنما لدينا طرفان بينهما صدام تاريخي يتحمل فيه كل طرف مسئولية أعماله. ولكن إذا لم تكن هناك خطة، وأن جماعتنا فوجئت برد الفعل الإسرائيلي وأننا دخلنا حربا عرفنا بدايتها ولا نعرف نهايتها، وأن دولة عربية كاملة جري تدميرها دون معرفة للثمن الذي سوف نحصل عليه من التدمير، فإن المسألة تستحق الحساب. وهكذا فإن الجانب العربي الإعلامي يعرف دوما كيف يتساءل عن الخطط الإسرائيلية والنوايا الإسرائيلية ولكنه لا يسأل أبدا عن ماهية الخطط العربية والنوايا العربية، وهو علي استعداد- كما جري في قناة الجزيرة - أن يستمع إلي السيد خالد مشعل وهو يقول ببساطة أنه لم يكن هناك بديل لأن عملية السلام ماتت علي حد تعبير الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسي. ومع ذلك لا يأتي السؤال: وهل كانت جماعة حماس، وحزب الله أيضا، من المؤيدين لعملية السلام، فلما فشلت قاما باللجوء إلي الخيار العسكري الآخر، أم أن الحقيقة أنهما لم يؤيدا الخيار الآخر قط، وعملا بكل الطرق علي إفشاله وكان البديل العسكري الذي ينفذونه طوال الوقت هو الذي قادنا إلي ما وصلنا إليه. ولا يحتاج الأمر إلا لمراجعة العمليات العسكرية التي قاما بها عند كل منعطف من منعطفات العملية السلمية لمعرفة كيف خدمت هذه العمليات جماعات الاستيطان واستمرار العدوان الإسرائيلي في فرض سيطرتها علي إسرائيل. ومن الجائز بالطبع القول ان هذه الجماعات كانت مسيطرة علي أية حال، ولكن القضية هنا هي أنه لا ينبغي ترك هذا الادعاء بأن اللجوء للعمل العسكري يحدث الآن _ والآن فقط _ بسبب إفلاس الطريق السلمي وكأن هذه الطريق قد أعطي فرصة حقيقية في أي وقت. ولا يقل أهمية عن كل ذلك السؤال المنطقي: إذا كان العمل العسكري قد جاء بديلا لعملية السلام الفاشلة، فهل معني ذلك أن عمليات خطف الجنود هي المقدمة لعملية التحرير وأننا نتوقع أن تحقق هذه العمليات ما فشلت المفاوضات في تحقيقه ؟ كل هذه أسئلة لم تسأل، ولم تضع القيادات تحت المحك الحقيقي لإعلام قادر علي السؤال، وقادر علي التقييم، ولا يوجد في ذلك أي إخلال من حق القيادات الفلسطينية واللبنانية المقاتلة، وإنما هو دور المثقفين والإعلاميين في مجتمع حديث أن يطرحوا الأسئلة والتساؤلات علي قياداتهم قبل أن يطرحوها علي الجانب الآخر من التل !!