اختلفت مع الظن أن قانون الطواريء يحمي البلاد من الإرهاب في الأحوال التي نعايشها الآن حيث لا تختلف المعدلات الإرهابية عن المعدلات الأخري التي تواجهها دول أخري، بل أن هناك بعضا من شواهد أن تطبيق القانون الاستثنائي بتوسيع دائرة الاشتباه لا يحل كثيرا المشكلة بل أنه في بعض الأحوال قد يفاقمها. كما اختلفت أيضا مع الذين يظنون أن الإرهاب هو نتيجة لغياب الديموقراطية في مصر، أو وجود حالة من الاحتقان السياسي في البلاد، فلا يوجد دليل واحد علي أن الجماعات الإرهابية المختلفة تريد زوال الاحتقان السياسي أو أن زواله سوف يقلل من تصميمها علي العمليات الإرهابية، وبالتأكيد فإن الديموقراطية أو مجالس "الشرك" النيابية من المؤسسات المفضلة لدي الجماعات الملهمة بأفكار السادة أسامة بن لادن وأبو مصعب الزرقاوي وأيمن الظواهري. فهذه الجماعات جميعها صريحة كل الصراحة، وأمينة كل الأمانة، لأنها تريد تغيير مجتمعنا كلية من صورته الحالية " الشريرة " إلي صورة أخري " طاهرة "، وهي علي استعداد لتحقيق ذلك بالقول والقلب واليد الذي يعني استخدام القوة المسلحة أو الإرهاب. ليس معني ذلك بالطبع أن الديمقراطية مطلوبة، وأن زوال الإتقان السياسي مرغوب، ومن المؤكد أن كلاهما مع التنمية والإنجاز يزيدان من مناعة الدولة والنظام السياسي في مواجهة الإرهاب. ولكن ذلك واقع علي المدي الزمني البعيد نسبيا، وسوف يكون مهما عندما يتعافي المريض ويخرج من غرفة الإنعاش، أما والحالة الآن هي أن لدينا خطرا حالا لا يمكن تجاهلة ومن الواجب مواجهته من خلال الدولة والمجتمع معا. وكما بينا في مقالات سابقة أن أصل الموضوع في الإرهاب هو التحول الذي جري في الإنسان المصري لكي يكون له بعد واحد هو الدين بحيث أصبح مع الغلو هو العنصر الحاكم في العلاقات مع الآخر، والعلاقات مع الدولة والناس والعالم كله. فقد تآكلت روابط الوطنية والمهنة والجيرة والصداقة والعائلة والقبيلة والموطن والأفكار الإنسانية المشتركة حتي لم يبق منها سوي الدين فقط، ومدي الغلو فيه، كعنصر حاكم حازم يقرر العدو والصديق، والخصم والشريك. وحتي لا يسيء أحد الفهم فإن المقصود هنا ليس رفض الدين أو التدين، فكلاهما عنصر أساسي في تكوين الإنسان وضميره وسلامه الذاتي في مواجهة قضايا الوجود؛ ولكن المعضلة تحدث عندما يصبح الدين هو المحدد الوحيد للسلوك الإنساني وعلاقة الإنسان بالآخرين. لقد حدث تحول الإنسان المصري عبر فترة طويلة من الزمن امتدت خلال العقود الأربعة الماضية، وليس من السهل تتبع أسبابها المعقدة، ولكن حسبنا القول أن هناك مشاركة بين المجتمع والدولة في النصيب والقسط. وخلال التسعينيات نجحنا في المواجهة مع الإرهاب نسبيا لأنه تجاوز الحدود مع حادث الأقصر، ولأن كل القوي الحية في المجتمع، وخاصة المثقفين، لكي يواجهوا الإرهاب بوسائل شتي كلها تحاول إيقاظ الأبعاد المختلفة للشخصية المصرية. ولم يكن هناك صدفة في أن الجماعات الإرهابية المختلفة ناصبت الجماعة الثقافية من الأدباء والفنانين العداء بدرجة لا تقل عن عدائهم لجهاز الشرطة. مثل هذه الحالة مطلوبة الآن وبشدة، فقد فقدت الجماعة الثقافية والسياسية تماسكها بسبب فشل النظام في إتمام عملية التحول الديمقراطي بالسلاسة الواجبة، وبسبب وجود خوف مزمن علي المستقبل المصري، وبسبب عدم التوافق علي أجندة إصلاحية مناسبة. وقد أضيف إلي ضعف التماسك المصري الخلافات الحادة علي قانون الطواريء وطريقة تطبيقه التي ولدت شعورا باستمرار الحالة الاستثنائية للبلاد دون نجاح حقيقي في مواجهة الإرهاب. ومن المدهش أن الدولة التي أصرت علي تمديد حالة الطواريء كانت قد توقفت عن تطبيق القوانين العادية التي تمتلكها بالفعل والتي كانت كفيلة بمنع حالة التحول إلي البعد الواحد في المجتمع المصري. فقد تركت الدولة الطرق العامة لكل من يضع فيها لافتات دينية لم يكن القصد منها هداية البشر بقدر ما كان الهدف منها بيانا سياسيا، كما كان الهدف منها تعويد الدولة علي كسر القانون. وتركت الدولة كافة مصالحها الحكومية لكي يتم فيها تجاهل المساجد والإصرار علي الصلاة في الطرقات وأمام المصاعد لكي يحدث الشلل في المصالح والعمل. وتركت الدولة الميكرفونات التي تخرج من المساجد مهما تنوعت طرق معرفة مواقيت الصلاة لأن المعرفة ليست هي القضية وإنما الإعلان السياسي عن البعد الواحد هو القضية. وتركت الدولة الطرق العامة يتم إغلاقها في ساعات صلاة الجمعة رغم وجود مساحات كثيرة داخل المساجد نفسها لأن المطلوب هو الإعلان عن إسقاط هيبة الدولة لصالح هيبة المتحكمين في الحركة من أنصار البعد الواحد. وهكذا فإن الأمثلة كثيرة عجزت فيها الدولة عن تطبيق القانون العادي والطبيعي الذي يكفل هيبتها ويمنع عنها عملية قولبة الإنسان ذو البعد الواحد الذي يتحول عند احتدام الحالة إلي قرار بالهجوم علي المناطق السياحية أو الكنائس أو المسيحيين أو المسلمين الذين لا يشاركونه تشدده الديني ويرون أن الدين لله والوطن للجميع. وكما عجزت الدولة عن حماية الأبعاد المتعددة للشخصية المصرية عجز المجتمع أيضا عن القيام بمهمته في حماية نفسها في المسكن والحي والنادي حيث جرت عملية منظمة لتغيير العلاقات والتقاليد الاجتماعية بحيث ينغلق الناس علي أنفسهم في جماعات منفصلة يتم تسخين تعصبها بأساليب شتي. ومن الوسائل الشائعة كراهية الآخر في الدين ومخاصمته، واعتبار المرأة حالة مستمرة من الفتنة والإثم والمعصية، والنظر للعالم من حولنا كمصدر دائم لمؤامرة لا تنتهي. ومن الجائز أن يدور الحوار والسجال والخلاف حول قانون الطواريء، ولكن المؤكد أن المجتمع سوف ينجح فقط عندما يكون قادرا علي تطبيق قوانينه الطبيعية العادية، وتقاليده التاريخية ذات الأبعاد المتعددة، التي تقوم علي احترام النظام العام، واحترام الآخر في الدين أو العقيدة، والاعتراف بالمواطنة المتساوية للجميع دون استعلاء أو عقدة تفوق. وبصراحة فإننا لن ننجح بالطواريء فيما فشلنا فيه بالقوانين العادية في الحالات العادية لأن في هذه القوانين توجد هيبة الدولة وقدرتها.