بدأت إيران والولايات المتحدة في الكشف عن الاستراتيجية التي ستتبعها كل منهما في النزاع النووي القائم بينهما، والذي يبدو وكأنه سائر حتماً إلي المواجهة. وفي الحقيقة أن ما تكشف خلال الثلاثة أيام الماضية يشبه إلي حد كبير ما كان سائداً إبان الحرب الباردة من أساليب الخداع والدفع بالأمور إلي حافة الهاوية. فحسب مصادر الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فإن إيران نجحت في تضليل مفتشي الوكالة عندما رفضت السماح لهم بدخول المواقع المهمة، وأصرت علي عدم الإجابة علي أسئلتهم بشأن الصلة بين برنامجها النووي المدني والآخر العسكري. وإيران تقلد في ذلك كوريا الشمالية حيث نجدها تبالغ في بيان قدرتها النووية، في محاولة منها لإقناع الغرب بأن برنامجها قد أصبح من المستحيل إيقافه. يبدو هذا من تصريح الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد عندما قال: "إن التخلي عن جهود التخصيب هو خط أحمر لن تقوم إيران بعبوره أبداً" ورد عليه "روبرت جوزيف" كبير موظفي وزارة الخارجية المسئول في مجال منع الانتشار النووي بقوله إن الإدارة مصممة علي التأكد من أنه" لن يدور جهاز طرد مركزي واحد في إيران"، وتحدث المسئولون في الإدارة الأمريكية خلال اليومين الماضيين عن تفاصيل خطة لتحويل "طلب" مجلس الأمن الدولي لإيران بالتوقف عن تخصيب اليورانيوم إلي "شرط لازم التنفيذ". والشيء الذي أفزع الصينيين والروس وغيرهم في أوروبا هو أن الإدارة مصممة علي التعامل مع البرنامج النووي الإيراني، وفقاً لبنود المادة السابعة من ميثاق الأممالمتحدة التي تفوض فرض عقوبات في البداية، واستخدام القوة العسكرية إذا لم تكن العقوبات كافية. وعلي الرغم من أن الإدارة تقول إنه حتي لو كان من حق إيران قانوناً تخصيب اليورانيوم للأغراض المدنية، فإن السيد أحمدي نجاد رجل لا يمكن الوثوق فيه، علاوة علي أن بلاده بقيامها بتضليل الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فإنها تكون قد تخلت عن أية حقوق ترتبها لها تلك المعاهدة. وقد حاول بوش الجمعة الماضي أن يخفف من مخاوف حلفائه الأوروبيين الذين يعتقدون أنه يسير في نفس الطريق الذي سار فيه من قبل وانتهي به إلي الحرب ضد العراق، وذلك من خلال القول إن هناك فرقاً بين حالتي البلدين. ومع ذلك ظلت هذه المخاوف قائمة خصوصاً بعد أن أعلنت الإدارة الأمريكية لأول مرة أنه إذا فشل مجلس الأمن في التصرف - كما حدث في الحالة العراقية - فإن بوش سينظم تحالفاً بين الدول "المتشابهة في التفكير" للبدء في فرض عقوبات علي إيران، وأن الإدارة لن تسمح بتكرار ما حدث في حالة كوريا الشمالية لأن وضع إيران أكثر خطورة، بالنظر إلي أنها تقع في منطقة غير مستقرة، وسريعة التقلب وهي منطقة تُعتبر المصدر الرئيسي في العالم للإرهاب. ولكن التهديدات الأمريكية لم تؤد سوي إلي المزيد من التشدد لدي الطرف الإيراني، فحديث بوش عن أن "كل الخيارات مفتوحة" إذا ما فشلت الجهود الدبلوماسية، لم يؤد إلي تحقيق الغرض المتوخي منه. فقد قامت إيران بالرد من خلال تصعيد الأمور دون التهديد صراحة برفع أسعار النفط، لأنها تدرك أن توتير الأجواء في حد ذاته يؤدي إلي ارتفاع الأسعار، وهو ما يؤدي إلي زيادة مداخيل إيران وإلي زيادة معاناة المستهلكين الأمريكيين. ولكن إيران في الحقيقة بالغت في تضخيم قوتها لأنها لم تنجح سوي في تخصيب كميات ضئيلة من اليورانيوم، وستحتاج إلي المزيد من العمليات النووية، والأجهزة، والمعدات، وحل الكثير من المشكلات قبل أن تتمكن من إنتاج الوقود اللازم لصنع قنبلة، ثم تصنيع رأس حربي لحملها، وهي كلها أنشطة معرضة لخطر الاكتشاف. غير أن النزاع النووي الحالي لا يتعلق بالشفافية بقدر تعلقه بالكرامة الوطنية، وهو ما قد يفسر تلك الرقصات التي أداها الإيرانيون بأزيائهم الوطنية أمام شاشات التلفزيون مؤخراً حول صندوق قيل إنه يحمل ثمار جهود علمائهم النوويين. وهذا أيضاً هو ما يفسر إصرار بوش علي ضرورة قيام إيران بالتخلي عن كل شيء. ففي تصريح له يوم الجمعة قال: "الإيرانيون يجب ألا يحصلوا علي سلاح نووي، ولا علي القدرة علي تصنيع سلاح نووي، ولا علي المعرفة التي تمكنهم من معرفة كيف يمكن تصنيع سلاح نووي". الروس والصينيون يرون أن هذا الموقف من جانب بوش ليس واقعياً. وفي هذا الإطار أدلي متحدث روسي بتصريح استعار فيه أيضاً مصطلحاً من مصطلحات الحرب الباردة، وذلك حيث قال إن الوقت قد حان للتوصل إلي "وفاق" مع إيران. إلي ذلك أوضح المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية محمد البرادعي في مناقشات له مع بعض الدبلوماسيين اقتناعه بأن البراجماتية في النهاية هي التي يمكن أن تجعل إيران تقنع بتخصيب كميات ضئيلة من اليورانيوم من خلال نشاط يخضع باستمرار للرصد والمراقبة من قبل الوكالة. ولكن هناك مخاوف من أن يكون قصد رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية هو الجزء الظاهر من البرنامج، حيث يسود اعتقاد في كثير من الدوائر أن إيران تدير برنامجاً سرياً في مواقع تحت الصحراء. ونظراً لأن إيران تمنع التفتيش الدولي، وتراوغ في الإجابة علي أسئلة المفتشين، فإنه لن يكون بالإمكان معرفة ما إذا كان البرنامج الإيراني يشبه برنامج باكستان وخاصة أن علماءها هم الذين قاموا ببيع التكنولوجيا إلي إيران، أم أنه برنامج قريب من الوهم النووي الذي كان موجوداً في العراق. يذكر أن إيران لم ترد بشكل مباشر وصريح علي طلب مجلس الأمن الدولي بإيقاف نشاطها النووي، ولكنها عرضت السماح بالتفتيشات إذا ما قام المجلس بإعادة المسألة إلي الوكالة الدولية للطاقة الذرية وهو العرض الذي رفضه البيت الأبيض.