لا يعرف عن السيد سيرجي لافروف وزير خارجية روسيا أنه "هلفاط" وإنما يزن كلامه عادة بميزان حساس ويستند إلي قاعدة صلبة من المعلومات الدقيقة المناسبة هي تصريحاته لقناة "روسيا اليوم" ووكالة "نوفوستي" وإذاعة "صوت روسيا" حول "إمكانية تطبيع العلاقات بين إسرائيل وإيران" مذكرا الجميع بأن إسرائيل سبق وقدمت المعونة إلي إيران في فترة حكم الشاه خاصة في تنفيذ برنامجها الصاروخي النووي كما زودت إيران إسرائيل بكل احتياجاتها من النفط. روسيا دولة كبري حليفة لإيران وإسرائيل معا وهي التي أوعزت بفكرة تخصيب اليورانيوم الإيراني في الخارج وإن شئت الدقة المخرج الذي سيعيد الثقة بين إيران والغرب بعد الأزمة الأخيرة ويثبت أن الهدف من البرنامج النووي الإيراني سلمي بحت. تصريحات لافروف دعمت بقوة رسالة إيران إلي الغرب وأمريكا تحديداً بأنها مستعدة للتفاوض حول ملفات المنطقة المختلفة بدلا من التفاوض حول الملف النووي وحده فقد كان الحضور اللافت لإيران إلي جوار سوريا في قمة الدوحة نهاية 2008 رسالة مهمة للرئيس الأمريكي أوباما قبل أن يتولي منصبه رسميا في يناير 2009 بأن إيران حاضرة في المنطقة عبر ثلاثة ملفات لا فكاك من التعامل معها: فلسطينية "عبر حماس"، "نووية"، سورية لبنانية "الجولان - حزب الله". ووجه أوباما بالمثل رسائل إيجابية قصيرة لإيران فور نجاحه أعقبها بمبادرة تاريخية في عيد النيروز مخاطبا المسئولين الإيرانيين مباشرة عارضا عليهم تجاوز ثلاثين عاما من العلاقات العدائية كما دعا سفير إيران لزيارة مقر حلف شمال الأطلسي في بروكسيل وهي المرة الأولي منذ سقوط نظام الشاه وقيام الجمهورية الإسلامية في إيران في ديسمبر عام 9791. علاقات إيران مع الولاياتالمتحدة لم تنقطع البتة طيلة هذه المدة وقبل عامين في أكتوبر 2007 كشف تريتا بارسي أستاذ العلاقات الدولية في جامعة جون هوبكنز في كتابه المهم: التحالف الغادر: التعاملات السرية بين إسرائيل وإيرانوالولاياتالمتحدةالأمريكية طبيعة هذه العلاقات الإيرانية الإسرائيلية خلال الخمسين سنة الماضية وتأثيرها علي السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط. وأثبت بارسي بالوثائق أن العلاقة بين المثلث الإسرائيلي - الإيراني - الأمريكي تقوم علي المصالح والتنافس الإقليمي "الجيو - استراتيجي" وليس علي الأيديولوجيا أو الشعارات الحنجورية الحماسية أو قل: إن هذه الشعارات العدائية "الملتهبة والملهبة" لدغدغة مشاعر الغوغاء في الداخل فقط. علي عكس ما تزعم كل منهما فإن الصراع بين إسرائيل وإيران ليس أيديولوجيا "دينيا" وإنما هو نزاع استراتيجي قابل للحل والتفاوض لأن القوي النووية في عالم اليوم ومنها إيران وإسرائيل لا تتصارع في الحقيقة وإنما تتفاوض وتبرم الاتفاقيات إذا لزم الأمر خاصة إذا كانت تمتلك أوراقاً قوية للعب والضغط ومجالا استراتيجيا قابلا للتمدد والمساومة والأخذ والرد. كلام بارسي في مجمله يدحض نظرية هنري كيسنجر مستشار الأمن القومي الأمريكي ووزير الخارجية الأشهر في مرحلة الحرب الباردة الذي أعلن في العام 1979: أن الصراع في المستقبل سيكون بين الهويات والأديان خاصة بعد نجاح ثورة الإمام الخوميني في إيران وتحقيق السلام بين مصر وإسرائيل بموجب معاهدة "كامب ديفيد". لكن أهمية كلام كيسنجر وجدته تقبع في الضفة الأخري من النهر لأنه ربط بين حدثين مهمين إقليميا وعالميا لم يبدو وقتئذ أن بينهما كل هذه الملفات المتشابكة المعقدة التي ستتحكم في مصير الشرق الأوسط ومستقبله ربما لعقود مقبلة. إن كلا من إيران وإسرائيل تميلان إلي تقديم أنفسهما إلي العالم باعتبارهما: متفوقتين ومختلفتين في نفس الوقت من الناحية السياسية والثقافية عن العرب ناهيك عن أن الوضع الجيو سياسي الذي تعيشه كل منهما ضمن المحيط العربي والإقليمي يجعلهما يلتقيان حول نظرية: "اللا حرب - اللا سلام" وهو المطلوب تثبيته والمحافظة عليه من وجهة نظر الدول الكبري. ورغم أن إيران قدمت المساعدة للقوات الأمريكية في حرب العراق عام 2003 في إطار صفقة متكاملة تعود بموجبها العلاقات الطبيعية بينهما فإن تحقيق السلام بين العرب وإسرائيل "هدف أوباما المعلن ومحك مصداقيته في المنطقة" هو العائق الأكبر في اتمام هذه الصفقة لأنه يضرب مصالح إيران الاستراتيجية في العمق ويسلخ الأطراف العربية عنها خاصة سوريا وحزب الله وحماس مما يؤدي إلي عزلها استراتيجيا وتحجيم دورها. طمأنة إيران عبر تطبيع العلاقات مع إسرائيل أولاً تؤشر إلي وجود توافق دولي علي إعادة ترتيب أوضاع المنطقة كلها وهو ما عبر عنه لافروف بهذه الكلمات الدقيقة الواثقة: "لا أعلم متي لكنه سيتم حتما"... فماذا سيفعل العرب؟