لا يمكن لأي هدف أن يدخل حسابات السياسة ويثبت فيها إلا إذا كان مؤسساً علي معطيات موضوعية أعمق من العواطف والشعارات والأيديولوجيا. كل هذه الاعتبارات "الذاتية" تحتاج الي "الموضوعي" لتقف عليه وإلا سقطت... فما الأسس الموضوعية للعروبة إذا شاءت عودة لواقع السياسة، بعد تراجعاتها الأخيرة؟ اللحظة التاريخية الراهنة التي يمر بها العرب ليست من اللحظات التي تساعد علي اتضاح الرؤية، فهي لحظة ضياع ودوار يشوبهما احباط التراجعات والغضب الناجم عن التعديات في ظل اختلال التوازنات في المنطقة لغير صالح الأمة. وفي مثل هذه اللحظات تتداخل الأمور ويختلط ما هو فرعي بما هو أساسي، بل ما هو عرضي بما هو بديهي، وتتعايش الأضداد والنقائض تعايشاً عبثياً وعدمياً كما نشهد في الحياة العربية الراهنة. وإذا كان من السهل جداً أن ينفعل الإنسان ويبكي في هذه الظروف، فمن الصعب للغاية أن يفكر بهدوء. ونتيجة لهذا الوضع فإن "العروبة" التي كانت عنواناً حياتياً لمرحلة سابقة أصبحت أول ضحية لهذا الدوار وغدت "المتهم الرئيسي" حقاً أو باطلاً في كل ما وصل إليه العرب من شقاء وبؤس. ولم يعد مستغرباً ان نجد نموذج "العربي الكاره لنفسه" الذي يمثل صدي لنموذج "اليهودي الكاره لنفسه" وإن لم يتطابق معه ذلك الذي ضاق كإنسان بقتامة "الفيتو" فأراد الخروج منه الي رحابة المشهد الانساني.. أو هكذا يتصور اليوم العربي الكاره لنفسه باحثاً عن خلاصه، إما بهدم المعبد علي رأسه ورؤوس من معه مودعا العروبة، مبيناً مثالبها، منتقلاً هو ومن يريد مخاطبته الي العراء العدمي أو اللاشيء، دون البحث في تقديم البديل وهي مدرسة ذهنية ونفسية سبقت ظهور نعاة العروبة وظهرت في الثقافة العربية والشعر العربي منذ منتصف القرن العشرين ودعوتها الصارخة التمرد من أجل التمرد، دون تقديم البديل العملي الممكن لذلك، ونحن نري انها كحالة ذهنية تسهم في البلبلة الرهنة وإن بدت في مظهرها ثورية وتجديدية غايتها هدم الثوابت... ثم ماذا؟ لا ندري!... فقد نتج عنها شعراء وكتبة يكتبون بلغة غريبة اخفقت في أهم شروط الإبداع وهو القدرة علي التواصل مع الآخر ناهيك ب "الجماهير" التي يدعونها الي هذا التمرد الغامض، وتحول نتاجهم الي بكائيات مظلمة لم تغادر الصفحات التي طبعت عليها الي واقع الناس وعالمهم الرحب، فتبرأ منها وتخلي عنها في النهاية حتي دعاتها وكهنتها ووصموها بأنها "كتابة بلا كاتب". ولكن متي؟ بعد أن وقعت الفاس في الراس واستحال علي هذا النفر الخروج من قوقعته الأدبية أو الفيتو الذهني والنفسي الذي نشأ عليه وانحشر فيه، وصار غذاؤه الثقافي الوحيد (جيل الكتاب الواحد والأستاذ الأوحد فيما يذكرنا بجيل النص الواحد والشيخ الواحد). هكذا غابت عن رؤيته الخيارات الرحبة الأخري في معطيات الاجتماع وسنن التاريخ وتراث الفلسفة المتمثلة في امهات الكتب التي تأسست عليها حضارة العالم وتاريخه، ولم يعد قادراً إلا علي البكاء والنحيب علي أطلال الخرائب والهزائم العربية مفتقداً تماماً الرؤية التاريخية اللازمة في تجارب الأمم لمثل هذه الأحوال التي لا بد أن تمر بها في مسيرة التطور، وسقطت كل المعايير والمفاهيم فنشأ من سلالة تلك المدرسة المخفقة "نقد" لا يختلف عنها كثيرا، بل يماثلها في غموضها وفوضاها، وظهرت منه مقولة القراءة المفتوحة بلا ضوابط للنص وتقديسه بإغفال تام بأن النص وليد الإنسان وواقعه وليس تركيبا معلقا في الهواء، ومع اسقاطها التمييز المعرفي بين النص الفني الذي يحتمل بطبيعته تعدد التفسيرات، والنص الموضوعي العلمي الذي يجب أن يلتزم كاتبه بمعطيات بحثه ويحاسبه نقاده وقراؤه علي مدي اقترابه أو ابتعاده عن حقائقها، وإلا كيف يمكن تقييم الأطروحات في الجامعات، والأبحاث في مراكز البحث، والمرافعات بلغتها القانونية في القضاء، والخطاب السياسي العام في البرلمانات والاجتماعات والمحافل، فإذا كان هذا كله يحتمل تعدد القراءات والتفسيرات بلا ضوابط، فكيف يمكن تمييز الغث من السمين والخطأ من الصواب، والصحيح من السقيم... إلخ، بل كيف يمكن تأسيس مدارس في حياة الشعوب للدراسات التاريخية والاجتماعية والاقتصادية طالما أن كل معني جائز ووارد في قراءة النص الذي لا يعدو كونه تشكيلاً من الكلمات؟