ولماذا لا نوظف عيوبنا في نقدنا اللاذع في إنجاح الأفكار العملاقة؟! .. نعم.. نحن، وكعهدتنا دائما.. التوصل إلي أفكار من شأنها هدم أية فكرة عملاقة، ليشعر أعداء النجاح وما أكثرهم لدينا بأنهم قد حققوا بذلك أهدافهم في قتل أية فكرة عملاقة.. وما أسهل الهدم.. فبناء منزل يقتضي أعواما عديدة، ولكن يتم هدمه في عدة أيام! .. ولكن.. كيف نقضي علي هذا العيب الخطير والقادر علي هدم كل فكرة خطيرة نصل إليها في مصر؟ إن أهم وسيلة هي توظيف هذا العيب في خدمة الأفكار العملاقة نفسها. .. فقد يوجه البعض نقدا لاذعا لفكرة مشروع تحويل الحركة من النقل الخاص إلي العام في أوقات الذروة.. ومؤدي هذا النقد أنه يستند إلي فكرة هي غير مقبولة من الشعب المصري.. خاصة أصحاب السيارات الخاصة، لأنها تعني سلب حق صاحب السيارة في استخدام سيارته، وذلك يعتبر اعتداء علي حريته في استعمال ممتلكاته.. بالإضافة إلي ذلك فإن العديد من المصريين، خاصة من أصحاب المناصب الكبري، وملاك الشركات الذين اعتادوا علي "الأبهة".. فكل منهم يجلس في سيارته وهو في راحة تامة.. يقرأ الصحف ويتحدث في المحمول وفي سيارة مكيفة.. ويقودها سائق يشعره بمكانته وأهميته.. فكيف يتنازلون عن كل هذا النعيم؟! أليس هذا المشروع من وجهة نظرهم بمثابة الردة إلي عصر الاشتراكية البغيض، والذي يسلب حقوق الأغنياء دائما.. فالثروة والمركز سيتم سلبهما بهذا المشروع.. حتي ولو كانت المدة التي سيترك فيها الفرد سيارته مجرد بضع ساعات فقط "أوقات الذروة"! كما أن هناك أصحاب مهن معينة، مثل مندوبو المبيعات والدعاية الذين يتطلب عملهم الانتقال بسياراتهم باستمرار، فلا تجدي معهم السيارات العامة، لأنهم اعتادوا وضع مبيعاتهم في الغالب داخل سياراتهم، ودخولهم بسياراتهم في شوارع جانبية لا تمر بها سيارات النقل العام وكعادة معمظنا قد يوجهون هذا الانتقاد ويجعلونه آخر المطاف، وكأنما استطاعوا به دحض المشروع من أساسه ليستعيدوا كرامتهم التي عرفهم بها العالم أجمع كشعب مقلد رافض لما هو جديد من الأفكار التي يضعها أفراد الدولة! إلا أن هذه الانتقادات قد تحفز آخرين لوضع أفكار للحيولة دون القضاء علي هذا المشروع المنقذ لأزمة المواصلات بمدينة القاهرة.. فيصلون مثلا إلي فكرة مفادها: أن معظم أصحاب السيارات يستعملون سياراتهم في المشوار الواحد في الذهاب إلي مقار أعمالهم أو محلاتهم.. ثم يتركونها في مواقف الانتظار حتي نهاية اليوم، ليعودوا بها.. وهم يصادفون في القيادة في هذا المشوار متاعب جمة في القيادة تجعلهم دائما في حالة ضغط عصبي "وقت الذروة". فلسطين مقبرة التيارات الإيديولوجيات العربية من المؤكد أن نجاح حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية جاء بمثابة الانقلاب الكبير في تاريخ الشرق الأوسط الحديث. لا يرجع وصف ما حدث في الانتخابات الفلسطينية بالانقلاب تولي منظمة محسوبة علي التيار الإسلامي شئون الحكم فقد سبق لتطور مثل هذا أن جري في السودان وإيران، ولكنه يرجع إلي المكانة المركزية التي احتلتها فلسطين في السياسة العربية طوال العقود الستة الماضية. فرغم أهمية بلدين كبيرين بحجم إيران والسودان، إلا أنهما يظلان بلدين هامشيين بالنسبة للتفاعلات السياسية في العالم العربي، الأمر الذي يختلف تماما بالنسبة لفلسطين. فذلك البلد الصغير الواقع تحت الاحتلال له من الأهمية في تاريخ العرب الحديث أكثر مما لأي بلد آخر، بما في ذلك البلاد العربية الكبري. ففلسطين علي قدر ضيق مساحتها، ورغم أنها كانت الضحية الحقيقية لصعود الحركة الصهيونية، ولمناورات الحكومات العربية، ولحسابات القوي الكبري، ولتجاهل الرأي العام العالمي، إلا أنها رغم كل هذا، وربما بسببه، ساهمت أكثر من غيرها من البلاد العربية في تشكيل التاريخ والوعي السياسي العربي في العصر الحديث. فضياع فلسطين عام 1948 كان الحادث الفارق الذي قوض مصداقية نظم الحكم شبه الليبرالية التي حكمت العالم العربي طوال العقود الثلاثة السابقة علي النكبة الفلسطينية. ومع توالي سقوط النظم شبه الليبرالية طوال عقدي الخمسينيات والستينيات سقط معها التيار الليبرالي في العالم العربي، وهو التيار الذي مازال حتي هذه اللحظة يحاول التعافي من الضربة التي أوقعتها النكبة فوق رأسه، ومن الضربات التي تلقاها من النظم الاستبدادية التي ورثته. بانهيار الليبرالية العربية صعدت الحركات القومية العربية الراديكالية، بعثية وناصرية وغيرها، واستطاع هذا التيار أن يهيمن علي ساحة السياسة والفكر السياسي والإيديولوجيا العربية طوال العقدين التاليين، محمولا علي موجة عاتية من الحماس والدعاية والديماجوجيا المتعلقة بالقضية الفلسطينية، وليست خطابة الشقيري وأحمد سعيد وصوت العرب ببعيدة عن الذاكرة. غير أن التوقعات العالية التي أطلقها التيار القومي بشأن كونه المؤهل دون غيره لاستعادة الحق الفلسطيني، ناهيك عن مقارعة الاستعمار وبناء دولة الوحدة العربية وتحقيق الاشتراكية، كل هذا انتهي في عدة أيام بسبب الهزيمة الثقيلة التي تلقاها النظامان القوميان الأكبر في مصر وسوريا في حرب عام 1967. لقد استمرت النظم القومية في الحكم بعد هزيمة يونيو لسنوات عدة، الأمر الذي يمكن إرجاعه ليس إلي الوطأة المحدودة التي تركتها الهزيمة عليها، وإنما إلي طبيعتها القمعية والشمولية التي مكنتها من تصفية أي بديل سياسي محتمل، ناهيك عن إحكامها السيطرة علي الجيوش لمنعها من تكرار الانقلابات العسكرية التي أزاحت النظم شبه الليبرالية وجاءت بالقوميين الراديكاليين. فبينما أخفقت النظم القومية في تعلم شيء مهم من إخفاق النظم الليبرالية في إدارة الصراع مع إسرائيل، فإنها تعلمت الكثير من خبرة تلك النظم في الإخفاق في الدفاع عن بقائها. لهذا استمرت النظم القومية وورثتها المتلونون في الحكم لفترة أطول كثيرا من انتهاء عمرها الافتراضي، وأبعد كثيرا من اللحظة التي فقدت فيها المصداقية والشرعية بعد هزيمة قاسية أضاعت ما تبقي من فلسطين. غير أن استمرار النظم القومية لما وراء الهزيمة في الصراع مع إسرائيل لم يكن أكثر من مجرد استمرار ماسخ فاقد للشرعية والمعني، فرأينا هذه النظم وقد تحولت إلي كائنات متوحشة تفترس شعوبها وجيرانها، وهو ما فعله النظام السوري في حماة ولبنان، وما فعله النظام العراقي في حلابجة وإيران والكويت، وهي "الفرعنة" التي لم تكن قائمة علي أساس أخلاقي أو مبدئي أو شرعي، الأمر الذي سهل علي القوي الكبري الانتقال لمرحلة العمل المباشر ضد هذه الأنظمة، فكان ما كان لنظام صدام حسين، وما يحدث الآن لنظام البعث في دمشق. لقد بدأ الصعود التدريجي لتيارات الإسلام السياسي في العالم العربي منذ اللحظة التي أخفقت فيها النظم القومية في المواجهة مع إسرائيل، وظل الصعود التدريجي لتيارات الإسلام السياسي سببا في التوتر في المنطقة، أحيانا بسبب الطبيعة الإيديولوجية والعنيفة لهذا التيار نفسه، وأحيانا أخري بسبب المقاومة العنيدة للنظم الحاكمة التي استندت إلي أجهزة متطورة وعاتية للسيطرة الأمنية. وطوال فترة صعوده كانت فلسطين في قلب الخطاب الإيديولوجي والسياسي للتيار الإسلامي، بالضبط كما كان الحال مع التيار القومي العربي من قبل. وكما أجاد القوميون توظيف التراجيديا الفلسطينية لصالحهم، أجاد الإسلاميون توظيف المأساة نفسها حتي أصبحت أهم أدواتهم للتحريض والتعبئة السياسية. فمنذ النكبة الفلسطينية في عام 1948 وفلسطين تحتل الموقع المركزي في الخطاب السياسي والإيديولوجي العربي، فكانت التيارات السياسية العربية المختلفة تتنافس علي ادعاء القدرة علي قيادة الأمة نحو الحل العادل والناجع لهذه القضية، حتي باتت الثقافة السياسة العربية ثقافة "فلسطينية" بامتياز، بمعني أنها كانت ثقافة سياسية تنظر للعالم من منظور وزاوية واحدة هو المنظور والزاوية الفلسطينية، كما كادت أجندتها السياسية خالية سوي من قضية واحدة هي القضية الفلسطينية. لكل هذا فإن انتصار التيار الإسلامي في الانتخابات التشريعية الأخيرة في فلسطين له أهميته الكبري. فلعقود طويلة تنافس الإسلاميون مع غيرهم حول الجدارة لنصرة الحق الفلسطيني، أما اليوم فإن قضية فلسطين باتت في يد إسلامييها، وهو وضع نموذجي تنتفي فيه الفرصة للمزايدة. فالتيار الإسلام الذي هو التيار الصاعد بلا منازع في السياسة العربية بات ممسكا بقضية العرب المركزية، وهو اختبار صعب لا شك، لكن أهم ما فيه أن نتيجته ستنعكس ليس فقط علي الأوضاع في فلسطين، وإنما أيضا علي الحالة السياسية في العالم العربي برمته، وخاصة علي الثقافة السياسية العربية، وعلي ميزان القوي بين التيارات السياسية العربية المختلفة. وهكذا فإن فلسطين مازالت قضية العرب المركزية، ولكن مكانتها هذه تبدو مرشحة للتغيير في مستقبل ليس بعيد، حتي لو لم تجد القضية الفلسطينية حلا عادلا.