لنترك الماضي الآن جانبا، ولنتوجه الى ما تواجهه الحكومة الجديدة من تحديات، بعضها معروف وكتب عنه الكثيرون، وبعضها الآخر مستتر ولم يكتب عنه أحد. فنحن نعلم جيدا ان من أهم المشاكل التي تواجه مجتمعنا هو البطالة الظاهرة والمقنعة. أما الظاهرة فهي معروفة، وأما المقنعة فهي نتاج لعدم ربط "فرصة العمل" بعمل منتج، ويظهر هذا سواء في تكدس العمالة في الأروقة الحكومية، أو عدم ربط التعليم بالتنمية، أوغيرها من العوامل، مما يعني انخفاض المرتبات التي اصبحت توازي اعانات بطاله، وليس دخلا يمكن للفرد أن يعتمد عليه. ومن الأمور المعروفة ايضا ما سينتج من مشاكل نتيجة سياسة الخصخصة الواسعة النطاق والتي تستكمل مراحلها الآن. ولقد فشلت سياسة الخصخصة في المراحل السابقة في جذب رءوس الأموال بالقدر الكافي لاقامة مشاريع وتوفير فرص عمل. ولا ندري ما الذي سيحدث الآن. وأما التغير الدستوري فلقد أصبح ضرورة وافتتح مجلس الشعب دورته بمناقشة هذه القضية، ولكن العبرة ليس بالتغيير في حد ذاته، ولكن بما سينطوي عليه من مواد تتلاءم مع المرحلة القادمة، وتتيح فرصة اوسع للمشاركة الشعبية في عملية التنمية والنمو، وعملية الاصلاح السياسي والثقافي. لا نريد التغيير الدستوري على غرار تعديل مادة 76 التي حملت أملا للناس، ولكنها ما لبثت أن خذلتهم بوضع شروط تعجيزية لمن يريد أن يرشح نفسه للرئاسة في المرحلة القادمة، وهذه المادة ايضا في حاجة الى مناقشة وتعديل في الدورة البرلمانية الحالية. وأما ما أود ان الفت النظر اليه في هذه المقالة من تحدي في المرحلة القادمة، فهو كيف يمكن أن نحدث نقلة نوعية ثقافية، تساعد الانسان المصري خاصة بالنسبة للشباب على الثقة في النفس، وتنمية قدراته في التمييز والاختيار، والمشاركة والانتماء. ما نعانيه ثقافيا هو ترسيخ مفهوم وقيمة الطاعة العمياء للسطلة الأبوية، وهو ما يجعله غير قادر على المبادرة والرؤية المستقلة. والطاعة العمياء هي جزء من القيم الثقافية المرتبطة بسلطات عديدة في المجتمع. واستغفر الله فإن بعض التفسيرات الدينية للأوامر الربانية لا تبين حكمتها وجمالها وغايتها وأهدافها بالنسبة لصالح الانسان، ولكنها تركز فقط على "الطاعة" باعتبارها قيمة مطلقة في حد ذاتها. ولا بأس أن تكون "الطاعة" لله هي خلاصة تجربة روحية يشعر بها الانسان مع ربه وعلاقته معه، ولكن البعض يعتبر أن طاعة الله تتمثل في طاعة البشر ممن يأخذون على عاتقهم تفسير آيات الذكر الحكيم. ويتخذ هؤلاء من قوله تعالى: "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم"، وقوله "اسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون" ذريعة لفرض رؤيته على عباد الله. ولكن الطاعة التي أمر بها عباده لله وللرسول، ليس امتثال لأمر، ولكنها تناغم مع نصيحة وارشاد. والفرق كبير بين الجانبين. اذ أن الامتثال للأمر يعني أنه يفرض قهرا، ولكن التناغم مع الارشاد السماوي يعني أن الإنسان يؤمن برحمة الله به، ومحبته له، ويحاول أن يبحث في الارشاد الإلهي معانيه ومقاصده، ويعيد على نفسه الرؤية حتي يصل الى ما يرضيه، فيكون من هؤلاء الذين قال الله فيه "رضي عنهم ورضوا عنه". ان الغاء التفاعل الايماني داخل النفس الانسانية، يحول التعاليم الدينية الى أوامر صماء، وهو ما يعني ان الفرد يفقد ثقته في قدراته، ويبحث دائما عمن يقول له "افعل ولا تفعل". وتحت مسمى الدين يمكن أن يدخل كثيرون مما يخدعون البشر، ولننظر حولنا لنجد كيف خلقت وجوب طاعة عمر عبد الرحمن، وأسامة بن لادن ومصعب الزرقاوي قنابل بشرية متحركة. هل يعقل أن يتجه مجموعة من الناس لتدمير فندق مليء بالأبرياء، فنخسر مصطفي العقاد ضمن من نخسرهم، وهو المخرج الذي انتج أفلاما عظيمة تقدم الاسلام في صورة عالمية، وهو الرجل الذي يحمل فكرا انسانيا عاليا. من هؤلاء؟ كيف أمكن أن يقوموا بمثل هذا العمل؟ انهم يعتقدون أنهم في طاعتهم للزرقاوي يطيعون الله، لأنهم قد وقر في ضميرهم أنهم لا يستطيعون بأنفسهم أن يميزوا بين الأمور، وأنهم اذا ما أطاعوا فهم ينفذون أوامر الله ويجاهدون في سبيله. وهكذا قام منفذوا حادث 11 سبتمبر وهو الحدث الذي غير من علاقة الشرق بالغرب، وأحدث تداعيات سلبية للغاية على كل القضايا العربية العادلة، بل وأفرز مبررا للتدخل الأمريكي في الشرق الأوسط بشكل سافر. أن يفقد الانسان ثقته في التمييز لا يتصل بالأوامر الدينية فقط، ولكنه ينعكس أيضا في بحث الانسان عن المعرفة، فهو دائما يبحث عنها عند غيره، ولا يحاول أن يتفاعل معها ويعرضها على عقله بصورة نقدية. وبالتالي نفقد القدرة على الابداع والتفوق العلمي. وهذه هي أحد الجوانب التي تفسر لماذا لا يخرج من مجتمعاتنا الاسلامية علماء مبدعون، على الرغم من أن الحضارة الاسلامية في أوج ازدهارها هي التي أمدت الغرب بالقاعدة التي منها انطلق في عصر النهضة، ثم في التقدم العلمي بعد ذلك. كانت الطاقة الايمانية عند المسلمين الأوائل مرتبطة بالتحرر الداخلي النفسي والفكري، ولهذا كان في شغف للاطلاع على التراث الانساني في الشرق والغرب والاستفادة منه، والبناء عليه، بل واكتشاف نظريات جديدة في مختلف المجالات، مثل اكتشاف ابن النفيس للدورة الدموية، والحسن البصري لكيفية الرؤية، والخوارزمي لعلم المثلثات الذي ما زال يتسمي باسمه، وجابر بن حيان والكيمياء، وكذلك علم الجبر كان اكتشافا في الحضارة الاسلامية، وغيرها من العلوم. ولكننا اليوم نعيش على فتات ما يعطينا الغرب، نحاول أن "نلحق" الى مالانهاية. هل يمكن ان نعيد للعقل في بلدنا قدراته الخلاقة برؤية جديدة اصيلة لمعنى "التدين". الاصلاح الثقافي أو _ التغير الثقافي- الذي نواجهه كتحد هام، هو تغير فلسفة التعليم البالية المتهالكة برمتها الى رؤية جديدة، لنشجع الطالب أن يعتمد على نفسه في البحث عن المعرفة، ونعطيه الأدوات، ونسلحه بالمهارات، ولكن لا نضع في عقله المعلومات، وكأن هذا العقل اناء فارغ، علينا أن نملأه ونحشوه. وعلى المستوى الشخصي فإنني أواجه مشكلة مع طالباتي عندما أرفض أن اعطيهن مادة جاهزة ليحفظنها ويأخذنها على أنها أمر مسلًََم به، وعندما أبدي لهن أكثر من وجهة نظر في الموضوع الواحد، وأرفض أن اعتبر أن هناك رأيا خاطئا تماما، وآخر مصيبا تماما. والمشكلة التي أواجهها مع طالباتي تعطيني مؤشرا الى المسلمات التي نحشو بها اذهان أبنائنا وننزع الثقة في قدراتهن على التفكير والتعبير. ونريد في بيئة الحرية والنقد أن يظهر مثقفون لا يمالئون السلطة، ولكن يتعاونون معها على أن تتكامل السياسة التنفيذية مع رؤية مستقبلية لما نريد أن نرى عليه الشخصية المصرية. ان الاصلاح الاقتصادي هام للغاية، وتوفير لقمة عيش وعمل شريف لكل مصريين هدف نبيل وضروري، بل وحق من حقوق المواطن، ولكن لن يتحقق هذا دون أن يكون هناك اصلاح سياسي وتشريعي، وقبل هذا وبعد هذا فنحن في حاجة الى تغيير في البنية التحتية للعقلية المصرية التي تفقد الثقة في نفسها، والتي تلجأ دائما الى "الآخر" أو أي "سلطة" من اجل أن تكون دائما في موقع التابع، وليس المشارك والمتفاعل. وهذا التغيير يستلزم رؤية بعيدة المدى لما نريد أن تكون عليه الإنسان المصري، ونبدأ في بناء فلسفة تعليمية اعلامية دينية، تساعد المواطنين على أن يستعيد ثفته في نفسه، وقدراته في التمييز، ونربي فيه النوازع الانسانية السامية بالعمل والمثال، وليس بالتلقين .