"ستعودون للديار عبر أقواس النصر"! قالها نابليون كبشارة لجنوده.. وقام علي إثرها المهندسان "شالجران" و"ريموند" باستلهام قوس "تيتوس" الروماني وبنيا قوس النصر لينهض شامخا في ميدان فسيح تتفرع منه خمسة شوارع رئيسية وسط باريس، بدت الشوارع الخمسة الممتدة من قوس النصر كأشعة ترسلها نجمة لألاءة، فأطلق علي الميدان اسم "ميدان النجمة"، ليتفرع منه واحد من أهم شوارع باريس وأشهر شوارع العالم وأكثرها سحرا وجاذبية: "شارع الشانزليزيه". تتأمل.. فيحملك صفا الأشجار الممتدة بطول الشارع إلي عصور الملكية الفرنسية، وتكاد تسمع وقع سنابك الجياد وهي تطرق الأرض مسرعة بصاحب الجلالة مرسلة شرر غضبها وصخب غرورها كإشارات تحذير وترهيب للمارة! تنتبه فتعود لزمنك.. وتنظر شرقا مبتعدا بناظريك إلي نهاية الشانزليزيه لتلمح قمة المسلة المصرية تبرق بطلائها المذهب، وتقرر المسير إليها، تسأل نفسك كيف تم نقلها من مصر إلي فرنسا؟ ولماذا استغرقت رحلتها من دارها إلي دار هجرتها حوالي أربعة أعوام؟ وكيف خطر ببال محمد علي أن يهدي شيئا كهذا؟ وأيهما كان أفضل: أن تبقي المسلة في مصر أم أن تهاجر إلي فرنسا؟تصل لميدان "الكونكورد" وترطب عينيك برؤية قطعة من تاريخك شامخة هنا وسط باريس، تحوطها النافورات والتماثيل الرائعة، وتستشعر كم هي مدللة مترفة وتتذكر حال المسلة المكسورة والمسلة الناقصة في الأقصر! تخطو فوق أرض ميدان الكونكورد، يخطفك تاريخه الأليم، تنزلق عبر فوهة الذكري إلي بئر الظلمات.. هنا وقبل أن تقوم هذه المسلة كان يقوم شيء آخر.. شيء رهيب! غريب هو التاريخ الذي لا يتورع عن تحويل الجمال لقبح والوحشية لحضارة، ونحن نرضي ونقبل! هنا علي نفس هذه الأرض المرصعة بالجمال والتحضر تدحرجت آلاف الرؤوس تحت حد المقصلة، هنا ومكان هذه المسلة تحديدا نصبت المقصلة، وغُير اسم الميدان من ميدان "لويس الخامس عشر" إلي "ميدان الثورة"، هنا تحرجت رأس "ماري أنطوانيت"، هنا كانت الجماهير تحتشد لتتشفي في مجوعيها، ومن هنا استلهم "تشارلز ديكنز" رائعته "قصة مدينتين"! تدور حول المسلة، تنهال عليك التساؤلات والتصورات: ربما تدحرجت رؤوس في نفس مواضع قدمي، شئ بغيض أن ترتاد ساحة كانت يوما ما مغطاة بالدم، كيف كان هؤلاء الثائرون متحمسون لإراقة الدم هكذا؟ وكيف لم يعتبر من جاء بعد "لويس السادس عشر"؟ تختار الفرار من الميدان، تسعي نحو قوس النصر عبر الشانزليزيه، فرق كبير بين نصب يقام احتفالا بالنصر وبين جمال مصنوع افتعل للتغطية علي طيف المذابح ورائحة الدماء التي تكاد الذكري القاسية تفوح بها.حين تدحرجت رأس "لويس السادس عشر" علي أرض ميدان الثورة تطلعت عيناه لجزء من الثانية نحو الغرب، لم يكن هناك قوس للنصر، ولم يمهله عمره وقتا أكبر ليري أكثر من الزحام الشديد وبعضا من الوجوه الكارهة الشامتة، ثم غاب تاركا تاريخا أليما مريرا داميا، دون أن يعلم أن هناك _عبر شارع جميل ممتد _ سيقف قوس بديع مهيب يمجد جنود فرنسا المنتصرين! أغذ السير خلال الشانزليزيه، عيناي معلقتان بقوس النصر، لماذا أجبرني ميدان "الكونكورد" علي تأمل أرضه وشدَّ ناظري للأسفل؟ حتي المسلة الشامخة المدللة الحبيبة لم تستطع صرف تفكيري عما دار هنا منذ أكثر من مائتي عام.. لم أستطع رغم الجمال القابع الآن إلا أن أري بشاعة ما مضي.. الشمس تغرب خلف قوس النصر.. أرفع هامتي وأتطلع للألوان المتداخلة الممتزجة خلفه.. يراودني شعور بأن الأفق الأحمر ماهو إلا مرآة تعكس ما حدث يوما في الجهة المقابلة.. وكأن الحاضر لابد وبطريقة ما أن يحمل صورة الماضي."ميدان النجمة" الذي أنشئ احتفالا بإقامة قوس النصر وانطلقت منه خمس شوارع كبيرة، صار الآن ملتقي لاثني عشر شارعا وتحول اسمه إلي ميدان "شارل ديجول" باني الجمهورية الفرنسية الخامسة، وما زال قوس النصر يحتفظ بأسماء الجند البواسل علي جدرانه، وما زال يحمي شعلة الجندي المجهول بداخله في إجلال.. ومازال موضعا للفخر وسجلا للنصر وموئلا للعزة.بينما تحول اسم "ميدان الثورة" إلي "ميدان الكونكورد" أي الوفاق والود! لكن أحدا لم يجد له تاريخا لا في الوفاق ولا في الود.. وبقي تاريخه داميا حتي بعد أن حاولوا تجميله بمنحه اسما لطيفا أليفا! شارع واحد.. أوله دم وآخره نصر.. شرقه أليم الذكري وغربه عزيز الذكري.. ميدانان أحدهما يعبق ألما والآخر يفيض بهجة وشارع لابد من السير فيه من بدايته لنهايته لنعبر من ميدان الألم لميدان البهجة.