كان منصور ذلك الفتي الوسيم ذو الوجه الطفولي ابن حسب ونسب تمنت كل بنت في قريته في أعماق نفسها أن يكون من نصيبها.. هو ابن عمدة قريته وقد حظيت عائلته بمنصب العمودية كابرا عن كابر في كل العهود حين كانت العمدية تتم بالوراثة وحين كانت تحدث بالانتخاب وحين أصبحت بالتعيين وسواء كان العمدة ينفق علي منصبه أو حين اصبح يؤجر عليه بجنيهات معدودة لا تتفق مع واجبات الضيافة والاستقبال، لكن منصور في كل الحالات كان سليل أسرة لها رئاسة ظلت قائمة علي شرف وعدل ورضا من كل أهل القرية.. وفي بيت ابيه العمدة ولدت زينب وشبت واكتملت انوثتها وفتنتها كما ورثت عن والديها الخدمة في دار العمدة العريقة، كما ظل جمالها الصارخ ورومانسيتها التي لا تعلم من أين جاءت بها في حصن حصين وحراسة متينة لانتسابها إلي بيت العمدة، أما منصور ذلك الفتي الوديع الذي كان يحمر وجهه ويبدو عرقه وتضطرب أعطافه إذا ما صادف انثي وان كانت من أقربائه لم يكن أحد يصدق أنه بإرادته سوف يهوي في سقطة لا يغفرها أحد وفي قريته تعتبر هي الزلزال فلقد جرفه جمال زينب ووداعتها إلي أن ينسي نفسه ويصيب شرفها في مقتل في غفلة من الجميع ولفقرها وضعفها وانبهارها المكبوت بمنصور استسلمت واستكانت ويبدو أن ما عاصرته من نبل منصور وسمو أخلاقه قد هدهد قلبها وجسدها وجعلها تدرك أن ذلك هو الحب وليس الاغتصاب لأن الاغتصاب لا يتم بالرضا وهي قد رضيت بعد أن رأت في عيني منصور شعاع الحب وقد أصبح باراً موقدة وانها النهمته كما التهمها في لحظة تساوت فيها الخادمة بسيدها وصعد بها القلب إلي أعلي.. وما حدث قد وصلت رائحته إلي ابيه العمدة لكنه حاصر الفضيحة داخل منزله وإن كان قد ثار ثورة عارمة جارفة داخل الجدران وفرض عليه ذلك العار الذي لم يحدث من قبل في تاريخ أسرته أن يتخذ قراره القاسي بطرد الابن والخادمة من حماه ومن رحمته دون أن يحدد من الظالم ومن المظلوم ومن الجاني ومن الضحية المكلوم.. كان في حيرة مع ابنة ذي التاريخ الجنسي النظيف ومع خادمته ذات الطهر والعفاف، كما أن المراهقة في العائلة لم تكن لها أنياب.. اما أم منصور فقد عجزت سياستها وكياستها عن أن توقف غضب زوجها العمدة أو تؤجل رد فعله إلي حين ولم يقتنع العمدة بما قالته أم منصور من أن الله قد قبل التوبة من امرأة العزيز التي راودت فتاها نبي الله يوسف عن نفسه بعد أن تابت وأنابت وكافأها الله في النهاية بالزواج من يوسف الذي رغبته وتمنته.. وكان كل ما قدرت عليه أم منصور أنها دعمت ولدها منصور بما يكفيه من المؤن والمال وأعباء الترحال وأوصته أن يسرع بدرء الخطأ والستر علي الضحية والزواج بها واكتراء سكن للعيش معها عيشة هنية رضية، وذلك مرضاة لله ورسوله، وأكدت أن اباه سوف يسعده مجيء أحفاد له ولسوف يرضي وطابت الحياة زمنا بمنصور وزينب إلي أن اكتشف منصور أن زينب مصابة بمرض تناسلي قرر الأطباء أنه لا يحدث إلا بالعدوي وليس في عائلة منصور أو عائلة زينب- التي ضمها بيت العمدة -من اصيب بهذا المرض فليست هناك كذلك وراثة.. من أين جاء المرض؟!.. إن زينب كتلة من العفة والاخلاص وما كان يستطيع أن يصيب منها أحد هدفاً غير منصور الذي يعلم ظاهرها وباطنها وسرها ونجواها فهي ذاته التي بين جوانحه.. هل تكون قد تغيرت وبدلت مع الأيام ومع المدينة التي تعيش فيها وحياة المدن غير حياة الريف.. وهل كل من وجدت في القاع تبحث عن القمة فإذا ماوصلت اليها أرادت أن ترتقي قمة أخري.. وهل ذوي الحب الذي كان بينهما كماء البحر المالح كلما شرب منه الإنسان ازداد عطشا؟! ولقد زاد اضطراب منصور وتوقفت قبلاته ونظراته وحدبه وحنانه عن زينب واشتدت أفاعيل الوسواس الخناس.. لماذا لا تكون زينب قد استغلت ثقة منصور وغفلته واتصلت بآخر؟ والطبيب الأشهر ذو اللحية الكثيفة يؤكد لمنصور عفة زينب ولكنه بعد المسملة والاستغفار يؤكد لمنصور أن مرض زينب لا يصيب أية امرأة إلا إذا انتقلت إليها العدوي من مصاب آخر وأصبحت زينب تشعر بدوامة الشك التي تعشعش في وجدان منصور ولكنها تخشي أن تجره إلي الكلام فيبدي ما كان يخفيه وتخشي زينب من احتمال الفراق وتبكي بالدمع الهتون.. وينمو الجنين في بطنها وتضع زينب طفلة جميلة ولكن حمي النفاس تقضي عليها لتترك رضيعتها يتيمة ويقترب منصور من حد الجنون.. ماذا يصنع بالطفلة وتقدم أمه من قريتها فرحة مرحة سعيدة لتفاجأ بالكارثة وتحمل الجدة حفيدتها الوليدة الجديدة وتهدهدها وتقبلها من بين دموعها وهي تخاطب ابنها انظر يا منصور ابنتك سبحان الخلاق عيناها خضراوان مثل عينيك شعرها كستنائي مثل شعرك وجهها سبحان الله صورة منك يا منصور انها مثلك في ابتسامتها في زم شفتيها في أصابعها الأربعة بدل الخمسة في رجلها اليمني مثلك يا منصور يا سبحان الله ماذا تسميها يا منصور؟ وتهطل الدموع من عيني منصور ويرتجف وتصطك شفتاه ويجيب امه بصوت متهدج مغلف بحزن عميق اسمها زينب يا امي زينب يا أمي كانت صحبة ملائكية بدأت بخطأ غير مقصود ذهبت إلي مثواها ولكن حبها بقي في قلبي لم يذهب معها.