يترتب علي رَمْيَ الآخر المختلف بالفسق والخروج عن الدين والملة عدة أمور شرعية بخلاف تفريقه عن زوجه وولده التي صارت عنوان لمن أردنا رميه بالفسق والبهتان : 1- الانتقاص من شخصيّته الإيمانية، ولذا لا تصحّ إمامته للمصلّين ويُعتبر فاعلاً للمنكر. 2- الانتقاص من شخصيّته القانونية، ولذا لا تُقبل شهادته. 3- الانتقاص من كرامته الإنسانية، ولذا تسقط حرمته وتُجوّز غيبته، لأنّ مَنْ ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له . ولذا يكون من الضروري بمكان تحديد معنى الفسق ومعرفة ضوابطه، وهل أنّ مجرد الاختلاف في بعض الفروع أو فعل الطاعات باباً يُخرج الإنسان من خطِّ العدالة؟ وقد لعب علم الكلام الُمشيد على منطق الفرقة الناجية دورٌ في التأسيس لمنحى تكفيري في ترسيخ وتفسير مفهوم الفرقة الناجية ، شُيد هذا التوجه علي خلفية العامل السياسي والإرث التاريخي الثقيل والمليء بالمرارات والمُثْخن بالجراح والمشحون بالظلم والقهر واستباحة الآخر ، فهذا كلّه قد أرخى بظلامه وظلماته ، وساهم في تكوين أرضية نفسية لدى الفقيه ترسخت في قرارة تفكيره ، وهي بدورها أسّست لما يمكن تسميته بفقه الشقاق والإقصاء ، ووجّهت ذهن الفقيه لا شعورياً في هذا الاتجاه بدل أن يتّجه إلى بناء فقه واقعي يجمع لا يفرق ويشتغل بحل المعضلات المعاصرة والقضايا المستجدة ، وينزع فتائل التفجير فيما بينها ويفكّك الألغام المنتشرة بطريقة عشوائية في تراثنا. والنتيجة الطبيعية التي تمخّضت عن ذلك هو ما نشهده من تمزّق الأُمّة أشلاءً متناثرة وما نلاحظه من واقع حزين ومؤلم ملؤه الأحقاد والدماء والثارات ، واستشرت فيه الضغائن المتبادلة ، منتجة في النهاية الصورة العبثية لاستباحة المسلم لعرض أخيه المسلم، وكذا استباحة دمه وماله. ويا ليت توقف الأمر على مجرد الجرأة المفرطة على انتهاك حرمة الآخر فقط ، لسهل عندها العلاج ، لأنّ من يهتك حرمة الآخر- والحال هذه- يعرف في قرارة نفسه أنّه مخطئ ويرتكب حراماً، وقد يكون عنده قابلية الارتداع عن المنكر من خلال النصيحة والتوجيه، بيد أنّ القضية تجاوزت ذلك بكثير وأضحى المسلم يرى في غيبة المسلم الآخر عملاً مشروعاً ومحبّذاً لا محرّماً، وهنا يغدو المرض أكثر خطورة وعلاجه أشدّ صعوبة، لأنّ إقناع المسلم بترك الحرام أهون من إقناعه بترك ما هو حلال بنظره، تماماً كما أنّ إقناع الشخص بترك ما يضرّه أسهل بكثير من إقناعه بترك ما يعتقده نافعاً له أو غير مضرّ به ولو كان في الواقع مضراً، ولذا يُنقل عن البعض أنّه قال: أنا أُسامح كلّ مَن يغتابني إلاّ المشايخ ، ولما سُئِل عن السبب؟ قال: لأنّ الإنسان العادي يغتابني وهو يعرف أنّه لا تحلّ له الغيبة، أي إنّ لي نوعاً من الحرمة بنظره، بينما الفقيه لا يغتابني إلاّ بعد أن يُخرجني عن مقتضى العدالة والتديّن، لتصبح غِيْبَتي مشروعة بنظره! هذا هو واقعنا المؤلم ، نفسق بعضنا ونكفر نظرائنا لمجرد خلاف في الفروع أو اختلاف في الاجتهاد ، ولا يجب أن نقنع بأن أصلاح ذلك سبيله مجرد مواعظ نُطْلِقها في الهواء لتتبخر بعد دقائق ، بل بعملٍ فكريّ تأصيلي يعيد النظر- بداية- في ثقافة التكفير والتفسيق والإقصاء، ويعاود دراسة الفتاوى التي تنزع الحرمة عن الآخر وتبيح تفريقه عن زوجه وولده بعد لعْنه وسبّه، لمجرد خلاف لا يمس صحيح الاعتقاد بوحدانية الله ولا صدق نبوة سيد السادات الحبيب المصطفي ( ص) . ولابد من الفرز في نوع الخلاف والمخالفة الشرعية المنسوبة للشخص المستهدف بالتكفير والتفسيق ، فهذه المخالفة المنسوبة له قد تكون في الفروع وقد تقع في الأصول. أمّا المخالفة على مستوى الفروع وهي المعصية فليس ثمّة خلاف أو إشكال في أنّ العصيان إنَّما يُوجِب الخروج عن خط العدالة فيما لو تعمَّد المكلّف ارتكاب ما حرّم الله أو ترك ما فرضه على العباد، وأمّا لو ارتكبها خطأً أو جهلاً فلا يخرج بذلك عن خطّ الاستقامة والعدالة ، ثم إنّه وعلى فرض التعمّد فإنَّ القضية الأساس هي معرفة ما هو الحرام؟ وما هو الواجب؟ فما اتُّفِقَ على حرمته أو وجوبه لقيام الدليل على ذلك تكون مخالفته موجبة للفسق، وأمّا القضايا الخلافيّة الاجتهادية فلا تضرّ المخالفة فيها ولا تُخْرج عن العدالة، وقد صرّح بذلك جملة من الفقهاء الثقاة . وعلى سبيل المثال: لو أنّ مسلماً اتّجر بأوراق اليانصيب بيعاً أو شراءً استناداً إلى رأي بعض الفقهاء الذين يجيزون هذه التجارة ولا يرونها مندرجة في مفهوم القمار، فلا يجوز للآخرين رَميْه بالفسق والاتّجار بالحرام، ولا نهيه عن ذلك، لأنّه يستند إلى رأيٍ فقهيّ اجتهاديّ يجيز له ذلك. فالقول الفصل أن الفسق إنّما يتحقّق بمخالفة الإجماع الذي لا خلاف فيه قل أو كثر، فالقضايا الإجماعية لا تجوز مخالفتها، وكلّ مَنْ يخالفها يُعتبر فاسقاً، أمّا المسائل الخلافية التي يكون فيها أكثر من رأي فلا تُوجب مخالفتها فسقاً وخروجاً عن العدالة.