قُدم المفكر السوداني محمود محمد طه للمحاكمة بتهمة الردة ، قاطع طه المحاكمة منذ البداية ، ورفض أن يترافع المحامون المتطوعون عنه ، في التهمة التي كيفها نظام النميرى والترابى ضده، وآخر ما قاله : « أنا أعلنت مراراً رأيي في قوانين سبتمبر 1983 من أنها مخالفة للشريعة ، ومخالفة للإسلام ، وأنها استغلت لإرهاب الشعب ، كما أن القضاة الذين يتولون المحاكمة تحتها غير مؤهلين تماماً ، تستعملهم السلطة التنفيذية لإضاعة الحقوق وتشويه الإسلام . الرجل ببساطة اتُهم بالردة عن الإسلام وهو يدافع عن سماحته ونقائه في وجه من يريدون أن يمتطوه لتحقيق مآربهم ، لم يعترف طه بالمحكمة ، ليقينه بأنها انعقدت لتنطق بحكم سابق التجهيز ، وهذا ما حدث بالفعل ، لم يحاول النظام حتى أن يجمل صورته أو يضع بعض الرتوش والأصباغ ، بل كان أعمى شديد القسوة في تحقيق مراده ، فقد عقد القاضي الهُمام جلسة واحدة ليس لها ثانية ، وفى الثانية لم يتوان الرجل بل نطق بالحكم ، ولم تستغرق المحاكمة الهزلية سوى 13 يوما ، اعتقل طه في يناير 1985 ، وصدر الحكم في 7 يناير، وفى 15 يناير صدر تأييد الحكم ورفض الطعن عليه ، وتحدد للتنفيذ صباح الجمعة 18 يناير 1985!! . اقتيد الشهيد محمود طه إلي ساحة سجن كوبر لينفذ فيه حكم الإعدام علي رؤوس الأشهاد ، كان الثبات هو التعبير المرتسم على وجهه ، كانت عيونه متحدية ، وفمه صارماً ، ثابت لا يرتجف ، ولم تبد عليه مطلقا أية علامة من علامات الخوف الذي يستولي علي أي نفس تُساق إلي الموت ، بدأ الحشد المغرر به في الهتاف ، بينما كان علي المنصة مجندان يلبسان زيا رملي اللون ، يضعان عُقدة الحبل علي رقبة محمود طه . فجأة تراجع الحراس للوراء، ثم سحبت أرضية المنصة. ارتفع الشهيد إلي ربه ، و اشتعل الهدير في الساحة « الله أكبر » ثم بدأ الحشد الكبير الغارق في غيبوبته فى تكرار الهتاف بشكل جماعي : « الإسلام هو الحل » الرجال الذين استبدت بهم الحماسة عانقوا وقبل بعضهم بعضاً . ولم يفهم هؤلاء العوام الذين هللوا لإعدام طه فى ذلك اليوم أن الرجل الصالح نفى تماما أنه ارتد عن الإسلام ، وكان هذا شرعاً يكفيه لدرء الاتهام الملفق له ، ولم يستوعب هؤلاء البسطاء أن الرجل الذي يتدلى جسده أمامهم كان مصلحاً دينياً مستنيراً و ليس مهرطقاً ولا زنديقاً ، أو مرتداً عن الإسلام حتي يكبروا علي نحره ، فهو ببساطة كان مفكراً صلباً في الحق ومؤمناً صادقاً وقف فى وجه التطبيق الوحشي المشوه للشريعة الإسلامية . والمدهش أنه بعد مرور 76 يوما من تنفيذ الحكم سقط حكم نميرى . وقبل أن يسقط الرجل اصطدم مع الحليف اللدود حسن الترابي ، ففي أيامه الأخيرة أراد الترابي أن يغسل يده بعدما استيقن بذكائه أن النميري يتهاوي ، فلم يكن بد من الصدام . وعاد الترابي وإخوانه إلي السجون مرة أخري . ومثل لهم سقوط النميري مخرجاً سريعاً من غياهب سجن كوبر بالخرطوم لينهض الترابي سريعاً لتأسيس حزبه الجديد الجبهة الوطنية الإسلامية ، ويشارك في الانتخابات البرلمانية يحدوه الأمل في تحقيق صدارة السباق ، لكن الصاعقة التي زلزلت كيانه وإخوانه أن حل حزبهم ثالثاً في السباق بنسبة لا تتعدي 18 بالمائة من الناخبين . سريعأ ، وبدهائه المعتاد استطاع الترابي إعادة تدوير الهزيمة ، فقد تزامنت الانتخابات مع الطامة الكبري المتمثلة في إعلان صندوق النقد الدولي إفلاس السودان ، وما صاحب ذلك من انهيار للاقتصاد واشتعال للحرب في الجنوب ، هنا أطلق الترابي دعاته ومبشريه الذين جاسوا خلال الديار لإقناع البسطاء بأن المنقذ من الأزمة ومستنقع السقوط في كل الأصعدة هو منهج الترابي ومن معهم في فهم الإسلام ، وخلال عامين حقق الترابي خطوات ملموسة للإمام في استجلاب المؤيدين ؛ وحانت الفرصة للترابي ليعيد ترتيب اللعبة من جديد حينما أعلنت الحكومة في يونيو 1989 تعليق تطبيق القانون الإسلامي كمقدمة للمصالحة مع الجنوب . هنا صدرت الإشارة واستولى أتباع الترابي في الجيش علي مقاليد الأمور بقيادة العميد عمر حسن أحمد البشير قائداً اللواء الثامن مشاة . الذي شهدت فترة رئاسته الممتدة حتي كتابة هذه السطور تقلبات وانقلابات مع الترابي وجماعته .. ِ