حسن الترابي .. العلامة والنبراس لتيارات الإسلام السياسي السودانية .. الرجل وبحق هو ساحر الجماهير ، الممسك بزمام القلوب ، والقوة الدافعة للحركة الإسلامية هناك . في الوقت الذي كان الرحم الأم في مصر يخوض محنته الثانية العاصفة في منتصف الستينات من القرن الماضي في مواجهتهم مع الزعيم جمال عبد الناصر كان حسن الترابي يؤسس جبهة الشرعية الإسلامية، الملاحظ أن الجبهة من اللحظة الأولي تبنت خطاب الإخوان المسلمين المصريين ووجهة نظرهم في التنظير.. لكن ؛ وفي نفس الوقت قلدت الحزب الشيوعي في التنظيم . وما بين تنظير الإخوان وتنظيم الشيوعيين كان لجبهة الترابي نكهتها المميزة . طرح الترابي نظريته في الحل الإسلامي علي أساس أن الإسلام قادر علي تأمين مخطط شامل للتطور الاجتماعي ، والسياسي ، والاقتصادي في مواجهة كافة الأنظمة البديلة التي تطرح نفسها علي الساحة من الاشتراكية والشيوعية . واجتذب الترابي بطرحه السهل وفصاحته قلوب كثيراً من السودانيين ، وسهل له ذلك طبيعة الشعب السوداني شديد التعلق والإخلاص للدين ، والذي كان يرسم طريق لبلورته علي ارض الواقع عن طريق انخراط جمهرة كبيرة من السودانيين في الحركة المهدية ، أو في الطرق الصوفية التي يتكاثر مريدوها في السودان خاصة الطريقة القادرية و الرفاعية و الأحمدية والشاذلية و الميرغنية و الختمية و التيجانية ، واستطاع الترابي في خلال عشر سنوات أن يستقطب عدداً كبيراً من مريدي الطرق الصوفية المنتشرين في كل ولايات السودان ، كما تمكن من التواجد بشكل ملحوظ في صفوف طلبة الجامعات السودانية . وفي الوقت الذي كان الترابي وجماعته يتغلغلون في مفاصل السودان أطاحت حركة الضباط الأحرار في مايو 1969 بقيادة جعفر نميري بالجمهورية ، وأعلنت مجلس قيادة ثوري ، علي غرار النسق الذي سبقهم فيه الزعيم جمال عبد الناصر ، وتكاد أن تتشابه الظروف ، فكما دخل ناصر في صدام مع الإخوان والشيوعيين في آن واحد ، كان ذلك هو نفس مصير نميري ورفاقه الذين ما لبثوا أن اشتعل الصراع بينهم وبين الإخوان والشيوعيين ، كما واجه نميري موقفاً صعباً فرضته طبيعة السودان التي شاءت الأقدار بأن يكون مربعا لأقوام مختلفي اللغة والأديان والمنابت . من هؤلاء من ترعرع أسلافهم فيه، ومنهم من وفد أسلافهم إلى رُباه وطاب لهم المكان فاستقروا فيه وأقاموا . لهذا أصبحوا جميعا أصحاب حق أصيل في البلاد . وقد يكون ذلك مصدر خير داني النتاج ، كما قد يصبح ذريعة شر واقتتال ، وصدق الله ( ونبلوكم بالشر والخير فتنة ) . كان الصدام مع الشيوعيين سريعاً ودامياً وكان الضحايا في هذا الصراع كُثر علي رأسهم أحد أصحاب الفكر الخلاق في تاريخ السودان الحديث ، وهو المرحوم عبد الخالق محجوب زعيم الحزب الشيوعي السوداني الذي كان ذا حضور مؤثر في المحافل الشيوعية العالمية. ألف عدد من الكتب القيمة ، وحاول فيها طرح و إيجاد صيغة سودانية للماركسية بدلا عن التطبيق الحرفي للصيغة السوفييتية أو الصينية ، ورفض بشكل قاطع التبعية للحزب الشيوعي السوفييتي على النقيض من عدد كبير من الأحزاب الشيوعية الأخرى ، كما كان رحمه الله يرفض الربط بين الشيوعية والإلحاد . وأن الشيوعية مذهب اقتصادي ومنهج للحكم الرشيد لا يمكن بحال اعتبارها بديلاً عن الإسلام. وانتهز النميري فرصة انقلاب هاشم العطا يوليو 1971 الذي استولى على السلطة لمدة ثلاثة أيام قبل أن يسترد النميري السلطة، فاتهم الحزب الشيوعي بتدبير الانقلاب نظراً لاشتراك عدد من الضباط المنضمين للحزب الشيوعي فيه وعلى إثر ذلك تمت تصفية عدد كبير من قيادات الحزب الشيوعي وعلي رأسهم محجوب ، الذي انتهت حياته علي حبل مشنقة سجن كوبر في الساعات الأولى من صباح الأربعاء28 يوليو1971م ، وبموته لم يعد الحزب الشيوعي السوداني لسابق نفوذه أبدا بعد إعدام أغلب قيادات الحزب. و انتهي فصل من الفكر في الحياة السياسية والاجتماعية السودانية . وللحديث بقية بمشيئة الله تعالي ..