مقاطعة الغلاء تنتصر.. غرفة بورسعيد التجارية: أسعار الأسماك انخفضت من 50 إلى 70%    هالة السعيد: خطة التنمية الجديدة تحقق مستهدفات رؤية مصر 2030 المُحدّثة    الخميس ولا الجمعة؟.. الموعد المحدد لضبط التوقيت الصيفي على هاتفك    المندوب الفلسطيني لدى الجامعة العربية: إسرائيل ماضية بحربها وإبادتها رغم القرارات الدولية والمظاهرات العالمية    إدخال 215 شاحنة مساعدات من خلال معبري رفح البري وكرم أبو سالم لقطاع غزة    بدء أعمال الدورة غير العادية لمجلس الجامعة العربية بشأن غزة على مستوى المندوبين الدائمين    الإسماعيلي يحل أزمة فخر الدين بن يوسف وينجح في إعادة فتح باب القيد للاعبين    لويس إنريكي: هدفنا الفوز بجميع البطولات الممكنة    بمناسبة العيد القومي لسيناء.. وزير الرياضة يشارك مع فتيات العريش مهرجان 100 بنت ألف حلم    السيطرة على حريق حظيرتي مواشي ببني سويف    مديريات تعليمية تعلن ضوابط تأمين امتحانات نهاية العام    وزير العدل يختتم مؤتمر الذكاء الاصطناعي التوليدي وأثره على حقوق الملكية الفكرية    غدا.. أمسية فلكية في متحف الطفل    الجمعة.. قصور الثقافة تقيم احتفالية فنية لأغاني عبد الحليم حافظ بمسرح السامر    رئيس شعبة المصورين بنقابة الصحفيين: منع التصوير داخل المقابر.. وإذن مسبق لتصوير العزاء    مصرف قطر المركزي يصدر تعليمات شركات التأمين الرقمي    روسيا تبحث إنشاء موانئ في مصر والجزائر ودول إفريقية أخرى    لاشين: الدولة دحرت الإرهاب من سيناء بفضل تضحيات رجال الجيش والشرطة    ضمن احتفالات العيد القومي...محافظ شمال سيناء يفتتح معرض منتجات مدارس التعليم الفني بالعريش(صور)    عضو بالشيوخ: مصر قدمت ملحمة وطنية كبيرة في سبيل استقلال الوطن    تأجيل محاكمة 4 متهمين بقتل طبيب التجمع الخامس لسرقته    بكين ترفض الاتهامات الأمريكية بشأن تبادلاتها التجارية مع موسكو    الصين تعلن انضمام شركاء جدد لبناء وتشغيل محطة أبحاث القمر الدولية    تفاصيل مؤتمر بصيرة حول الأعراف الاجتماعية المؤثرة على التمكين الاقتصادي للمرأة (صور)    هنا الزاهد تروج لفيلم "فاصل من اللحظات اللذيذة" بردود أفعال الجمهور    نصيحة الفلك لمواليد 24 إبريل 2024 من برج الثور    الكشف على 117 مريضا ضمن قافلة مجانية في المنوفية    «الصحة»: فحص 1.4 مليون طالب ضمن مبادرة الكشف المبكر عن فيروس سي    «الأطفال والحوامل وكبار السن الأكثر عرضة».. 3 نصائح لتجنب الإصابة بضربة شمس    «الرعاية الصحية في الإسماعيلية»: تدريب أطقم التمريض على مكافحة العدوى والطوارئ    المرصد الأورومتوسطي: اكتشاف مقابر جماعية داخل مستشفيين بغزة إحدى جرائم الحرب الإسرائيلية    مهرجان الإسكندرية السينمائي يكرم العراقي مهدي عباس    5 كلمات.. دار الإفتاء: أكثروا من هذا الدعاء اليوم تدخل الجنة    حقيقة حديث "الجنة تحت أقدام الأمهات" في الإسلام    خبراء استراتيجيون: الدولة وضعت خططا استراتيجية لتنطلق بسيناء من التطهير إلى التعمير    11 يومًا مدفوعة الأجر.. مفاجأة سارة للموظفين والطلاب بشأن الإجازات في مايو    نقيب «أسنان القاهرة» : تقديم خدمات نوعية لأعضاء النقابة تيسيرا لهم    أيمن الشريعى: لم أحدد مبلغ بيع "اوفا".. وفريق أنبى بطل دورى 2003    جديد من الحكومة عن أسعار السلع.. تنخفض للنصف تقريبا    رئيس "التخطيط الاستراتيجي": الهيدروجين الأخضر عامل مسرع رئيسي للتحول بمجال الطاقة السنوات المقبلة    المستشار أحمد خليل: مصر تحرص على تعزيز التعاون الدولي لمكافحة جرائم غسل الأموال وتمويل الإرهاب    هل يجوز أداء صلاة الحاجة لقضاء أكثر من مصلحة؟ تعرف على الدعاء الصحيح    أسوشيتيد برس: احتجاجات طلابية مؤيدة للفلسطينيين تستهدف وقف العلاقات المالية للكليات الأمريكية مع إسرائيل    دماء على «فرشة خضار».. طعنة في القلب تطيح بعشرة السنين في شبين القناطر    بعد أن وزّع دعوات فرحه.. وفاة شاب قبل زفافه بأيام في قنا    قبطان سفينة عملاقة يبلغ عن إنفجار بالقرب من موقعه في جنوب جيبوتي    فوز الدكتور محمد حساني بعضوية مجلس إدارة وكالة الدواء الأفريقية    برشلونة يعيد التفكير في بيع دي يونج، اعرف الأسباب    القبض على 5 عصابات سرقة في القاهرة    عمرو الحلواني: مانويل جوزيه أكثر مدرب مؤثر في حياتي    اسكواش - فرج: اسألوا كريم درويش عن سر التأهل ل 10 نهائيات.. ومواجهة الشوربجي كابوس    ضبط 16965 مخالفة مرورية خلال 24 ساعة    الحج في الإسلام: شروطه وحكمه ومقاصده    «خيال الظل» يواجه تغيرات «الهوية»    أبومسلم: وسام أبو علي الأفضل لقيادة هجوم الأهلي أمام مازيمبي    دعاء العواصف والرياح.. الأزهر الشريف ينشر الكلمات المستحبة    مصطفى الفقي: مصر ضلع مباشر قي القضية الفلسطينية    أجمل مسجات تهنئة شم النسيم 2024 للاصدقاء والعائلة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"مذكرات مصطفى محمود" .. أسرار يرويها "فيلسوف الشرق" لأول مرة قبل الرحيل
نشر في محيط يوم 24 - 10 - 2013

- الأب يتبرع بربع راتبه الضئيل .. ويهديه ابنه الكتب
-حكايات انفجار المعمل الصغير والجثة والعزف في الأفراح
- في المشرحة ترى الله في كل شيء
محمود يواجه تهم التكفير بعد "الله والإنسان" و"الشفاعة"
عصر عبدالناصر يشبه النازية .. والسادات داهية السياسة الذي أحببته
رفضت شعار "الإسلام هو الحل"
مواقف مع الأزهر وعبدالقدوس والشناوي وهيكل وعبدالوهاب|
رسالة الحياة : مواجهة شبح الفقر والمرض و.. معرفة الله بالعلم
هي بلا شك واحدة من أهم الخبطات الصحفية، تلك التي أقدم عليها الكاتب الصحفي الشاب السيد الحراني حين اخترق حياة العزلة التي اختارها العلامة الكبير مصطفى محمود لنفسه ، واستطاع أن يقترب منه ويستمع لأسرار حياته ورحلاته العجيبة حول العالم وتأملاته الفلسفية التي جلبت عليه موجات الهجوم والتكفير والمنع .. وظل مع ذلك عنيدا ووفيا لضميره وقلمه منذ مرحلة الشك الفلسفية التي قادته ليقين العارفين بالله والسواحين في دنياه بلا حدود ..
المذكرات التي أصدرتها دار "اكتب" مؤخرا صارت بين أكثر الكتب المصرية والعربية مبيعا في وقت وجيز، وتحمل السطور التالية جولة بين سطور مذكرات العلامة الكبير في رحلته الخالدة بين "العلم والإيمان"
بدايات .. غير عادية
"الناجح هو ذلك الذي يصرخ منذ ميلاده جئت لأختلف .. لا يكف عن رفع يده ليحط بها كل ظلم وباطل"
ولد مصطفى محمود في 27 ديسمبر 1921 بمحافظة المنوفية، وكان الابن التاسع في أسرة كبيرة، الأم والأب كلاهما سبق له الزواج مرتان وأنجبا حفنة من الصغار أحسنا تربيتهما على الخلق القويم، وقد كان مصطفى محمود توأم لشقيقه "سعد" الذي سرعان ما غادر الحياة وهو في مهده ليخلف لتوأمه بداية الشعور بالموت المحلق حولنا في كل مكان .. أيضا كان من أبرز أشقائه محافظ الدقهلية الأسبق.
وبامتنان خاص يتذكر محمود خوف أمه عليه باستمرار لاعتلال صحته المستمر وضعفه وسعيه لتجربة كل شيء بجرأة منقطعة النظير، ولعل ضعف صحته كان دافعا له لحالة النهم المبكرة في القراءة وكان يميل لكتب سلامة موسى وشبلي شميل وغيرهما، وكان تيار الوجودية سائدا بتلك الفترة بعد الحرب العالمية الثانية. كان أبوه لا يبخل عليه بالكتب وكان مثقفا من طراز رفيع هو الآخر، وقد اصطحب الأسرة لمنزلهم الجديد بالقاهرة، وعلى رقة حال أبيه حيث كان موظفا بديوان عام المحافظة كان يتبرع بربع راتبه للفقراء، فكانت الثمرة هي البركة في القليل وبيت يشمله الحب والاكتفاء .
بدأت بذرة الشك تنبت عند فيلسوف الأطباء منذ الطفولة المبكرة حين قدم لهم شيخ الكتاب ورقة يلصقونها على الجدران لمنع الصراصير، فلما وجد الصبي أن تلك الحشرات قد زاد انتشارها بدأ يشك في كل شيء .. وحين دخل المدرسة كان يميل لمواد الجغرافيا والطبيعة واشتهر بتفوقه الدراسي وكان يحتل التقدير الأول دوما، ولا ينسى محمود ذلك المعمل الصغير الذي صنع منه هو ورفيقه فرج العطور والمبيدات وكانا لا يزالان في طفولتهما، ثم انفجر ، فقرر أبوه تفكيكه .
أيضا لا ينسى محمود حبه للموسيقى منذ الصغر، واشتهاره بالصوت العذب فضلا عن ذلك، فكان إلى جانب دراسته في كلية الطب يذهب لإحياء الحفلات والأفراح خلف إحدى الراقصات وهو ما جلب عليه غضب أسرته واساتذته وزملائه !
ومن المواقف الطريفة التي يرويها مصطفى محمود في مذكراته ، أنه كان مشهورا ب"المشرحجي" بين رفاقه بكلية الطب لأنه يمضي ساعات طويلة بالمشرحة ، ولعلها كانت بداية تعلقه بالله ويقينه بوجوده، فكل شيء فان إلا وجهه وجسد الإنسان تموت خلاياه وتتجدد بأمر منه وحده . وقد أحضر معه مرة للمنزل جثة رجل سمين مغطاة بالفورمالين وهو ما تسبب بفزع رهيب عند أمه التي قررت عدم تنظيف حجرته أبداً !
من المواقف الطريفة أيضا أن مصطفى محمود كان قد أصابه وهن بجسده جعل الطبيب يظن أنه مات حين خفتت نبضات قلبه، فكفنوه ووضعوه بتابوت، وقد أفاق ليجد نفسه في ظلمته الدامسة !!
أما المواقف القاسية التي لا ينساها فكانت حين بدأ ميله للصحافة يزداد ، وقرر هجر بيته والعيش منفردا للكتابة للصحف، وكان ذلك بعد تخرجه من الكلية وتعيينه بمستشفى الحميات بألماظة ، وكانت فترة قاسية حقا عليه، اكتشف فيها أن الصحفي يحتاج لمصدر رزق آخر يعينه ، وبعد أن أصابه التيفود عاد لبيته من جديد.
ولا ينسى د. مصطفى محمود أن الراحل العظيم كامل شناوي كان أول من نشر مقالاته بمجلة آخر ساعة، وستمر الأيام ويكون هو من يتوسط له لدى هيكل بعد منع عبدالناصر الأديب من الكتابة غضبا من هجومه اللاذع على النظام.
كان أنيس منصور ، الفيلسوف والأديب اللامع، بين أبرز أصدقاء مصطفى محمود، ويتذكر كم كانت مشاغباته له حين ينزل للمطبعة ليلا ليمحو توقيعه "م . م" ويبدله ب"م . ع " ..
محنة التكفير والمصادرات
"نحن نساعد في خلق الأباطرة .. بل نحن الذين نصنعهم بأنفسنا"
حفلت المرحلة الناصرية بمفاجآت غير سارة لأديبنا الكبير، وخاصة أنه كان دائم الهجوم على عبدالناصر ويرى أن نظامه أخرج المصريين من عبودية ليدخلهم في عبودية جديدة لمجلس قيادة الثورة . وكان مصطفى محمود يهاجم مجانية التعليم الجامعي بلا ضوابط والتي تسببت في بوار الزراعة والبطالة المقنعة ناهيك عن تدني مستوى جودة التعليم للحضيض.
كان محمود يرى أن نظام ناصر هو السبب في هزائمنا وأنه أفقد مصر سيناء والسودان معا، وأنه تعلم درس الشيوعية الأول بضرب الطبقات الاجتماعية ببعضها والاحتفاظ بسفينة النجاة الأخيرة حتى يلجأ الكل إليه . وقال أن الخمسين بالمائة نسبة عمال وفلاحين بالبرلمان كانت مجرد رشوة لهم لتأييد النظام، بينما هي في الحقيقة كوابح تعطل تطور المجتمع .
قادت الأقدار أديبنا الكبير ليصادق الدكتور أنور المفتي الطبيب الشخصي لجمال عبدالناصر ، فقد كانا زملاء طب معا في الماضي، واكتشف من خلاله أن ناصر كان لا يحب المخالفين لأوامره، ويضع مصطفى محمود علامات استفهام كبيرة حول لغز الموت المفاجيء لهذا الطبيب الكبير وللمشير عبدالحكيم عامر ، وكلاهما برأيه مات مسموما بنوع نادر يملكه النظام من السموم وكان يسلمه صلاح نصر بالميزان !!
كان هجوم مصطفى محمود المتكرر على النظام وتشبيهه لهم بنازية هتلر سببا في نقمة ناصر عليه، وقد أمر بمنعه من الكتابة، ورغم مساندة الكاتب الكبير إحسان عبدالقدوس له ورده على ناصر بأنه لا يستطيع أن يقصف قلما حرا بصحيفة روزا اليوسف، لكن ناصر تمسك برايه .. وكان مصطفى محمود يرى أن محمد حسنين هيكل وراء كل النقمات التي تعرض لها الكتاب والمثقفين في العصر الناصري، وأنه كان الحاكم الفعلي ، والمؤلف لكتاب "فلسفة الثورة" وهو الذي أوحى لناصر بكل مباديء الاشتراكية التي نادى بها!
في تلك الأثناء كان مصطفى محمود قد أصدر كتابه "الله والإنسان" ويحمل درجة عالية من الشك في الذات الإلهية والبعث بالفعل، وهي أفكار تراجع عنها محمود وأعلن ذلك بل ووضع نسخة منقحة منه باسم "حوار مع صديقي الملحد"، فما كان من الشيخ الجليل حسن مأمون شيخ الأزهر والمفتي آنذاك إلا أن رد ردا بليغا على كتابه، أنكر فيه ما هو منكر وأشاد بما لم يكن الكاتب يعلم أنه من أصول الإسلام الذي يدعونا للعمل والتفكير الحر ، ولم يشأ أن يشهر به كما يقوم بعض المتطرفين اليوم حين يمسكون بسطر من كتاب ويقدمونه دليلا على كفر مؤلف بعينه فلا يستفيد المجتمع شيء بعد ذلك.
وربما قبل أن ننتقل للسادات وما قاله محمود عنه، نندهش من أنه وصف الرئيس حسني مبارك بأنه ورث التركة الفاشلة ، وقام بأضعاف ما قام به ناصر في صمت وبلا ضجيج أو اعتقالات!!
الصديق الشخصي للسادات
"الاستسلام للمنطق وحده يخنق أجمل ما في الإنسان .. روحه وضميره"
كان الرئيس محمد أنور السادات "داهية سياسي" كما يصفه مصطفى محمود، فهو تظاهر بالتبعية لفكر ناصر رغم علمه بعواقبه، وحاول إصلاح كل ذلك حين أصبح رئيسا، وكان يمتلك مقومات خاصة أهلته للعب هذا الدور، ومن ذلك أنه كان مثقفا من طراز رفيع وهذا لم يسلط عليه الضوء بشكل كافٍ حتى الآن، وكان يراسل منذ صباه الصحف ويكتب مقالات باستمرار لصحيفة الجمهورية وغيرها، وخرج براءة بعد محاكمته في قضية مقتل أمين عثمان، ثم أعيدت محاكمته بتهمة التخابر مع الألمان ضد الإنجليز، وهي تهمة شريفة بميزان الوطنية وقد أنجته الثورة منها.
ويحمد للسادات برأي مصطفى محمود أنه فتح الباب أمام كل التيارات الوطنية في البلاد بلا استثناء، وربما مال في سنواته الأخيرة للتوجس من جماعات دينية متأسلمة ومتطرفة، كانت السبب في مقتل الشيخ الذهبي وزير الأوقاف وكثير من الأبرياء .
عرض السادات على مصطفى محمود أن يتولى حقائب وزارية عدة ومنها الأوقاف والثقافة، ولكن الأخير رفض بشدة، وأجاب بقوله المشهور "إذا كنت فشلت في إدارة أصغر وحدة وهي بيتي فهل أنجح في إدارة وطن بأكمله" لكن الاعتذار لم يمنع صداقتهما، وظلت لقاءاتهما في يوم جمعة من كل شهر مستمرة بفيلا السادات بالهرم وفي شبين الكوم بالمنوفية متواصلة غير منقطعة، كان السادات يسأل محمود في كل شيء عن مصر قبل الحرب وبعدها وعن أمريكا وحقيقة الدور الذي تمارسه في المنطقة، وعن حقيقة الجماعات الإرهابية المنسوبة للإسلام زورا ، وسأله عن جماعة الإخوان وكان رد مصطفى محمود بخصوص المسألة الأخيرة أن العمل الدعوي لابد أن ينفصل عن العمل السياسي، وأنه يرفض بشكل قاطع شعار " الإسلام هو الحل" لما فيه من التفاف على الدين لتحقيق أغراض دنيوية بحتة برأيه.
في تلك المرحلة استطاع مصطفى محمود أن يخرج للنور مسرحياته التي طالما تحدثت عن ديكتاتورية جمال عبدالناصر ومنها "الإسكندر الأكبر" ،"الإنسان والظل" و"الزلزال". وكان يسعد كثيرا باهتمام السادات ببرنامجه "العلم والإيمان" والذي كرس له أغلب سنوات حياته وحظى بمشاهدة الملايين حول العالم وقيل إن إسرائيل كانت وراء توقفه.
نساء في حياتي
"الحب هو الألفة ورفع الكلفة، أن تصمتا انتما الاثنين فيحلو الصمت، ويتكلم احدكما فيحلو الاصغاء "
تحدث مصطفى محمود في مذكراته عن زيجتين انتهيتا بالفشل، فكانت ملكة جمال قلبه سامية تكثر من الغيرة عليه، وقد تعرف عليها حين أنشأ لأول مرة في صحف مصر بريد القراء وردود على مشكلاتهم وكانت هي واحدة من المتصلات، وقد دام زواجهما عشر سنوات، أثمرت عن أمل وأدهم أجمل ما في حياته على الإطلاق .
أما الزيجة الثانية فجاءت متأخرة بعد أن وصل لسن الستين وقد التقى بالسيدة "زينب" مأمورة الضرائب بمكتب مفيد فوزي بمجلة صباح الأخير وكانت تصغره بخمسة وعشرين عاما ، وتزوجا في المدينة المنورة، واستطاعا تأسيس جمعية محمود الخيرية، لكنها كأي امرأة أرادت أن تحصل على نصيب من اهتمام زوجها، فلم تجده إلا ناسكا عابدا متأملا في محرابه الصغير فوق الجمعية.
سواح في دنيا الله
مذكرات مصطفى محمود حافلة برحلاته حول العالم وطرائف كثيرة صادفها، منها قبيلة نمنم والتي لا يعمل فيها الرجال ، وقبائل الشيلوك والدنكا التي تعرف على دياناتهم العجيبة والتي منها عبادة النهر والأسد والنار، وهي قبائل تعيش بلا ملابس تقريبا ، والطوارق الذين يعتبرون الفم عورة ويعيش الرجال ملثمون والنساء متبرجات ، ورأى محمود قبائل ليس فيها الزواج بل تعيش على إباحة الزنا بشرط عدم الإنجاب ! وشاهد الحملات التبشيرية التي تتزاحم في تلك الأماكن النائية تحت شعار التحديث والتنمية،
طاف مصطفى محمود بدول أوروبا ليشاهد أفكار عبثية تنكر الخالق أحيانا ، ويشاهد احترامهم للعمل كما انبهر بروما التي تحتضن الفن الروماني بكل شبر فيها .. وحقق الدكتور مصطفى محمود حلم حياته بزيارة طويلة للهند شاهد فيها ديانات لا حصر لها وعاداتهم الخارقة عبر التعاويذ الروحية الخاصة
جمعية محمود الخيرية
"بالفعل لا أحد ينكر أننا في زمن التكنولوجيا الصماء أصبحنا أغبياء نحن نأكل الجوع ونشرب الظمأ ونموت جهلاء كما ولدنا نحن لا نعرف من أين وإلى أين .. أليس هذا هو الجنون ؟"
لم يكن مصطفى محمود يتخيل كم الحرب التي سيواجهها لتحقيق حلم حياته في تأسيس جمعية تكافيلة من خلال مسجده، فقد اتهمته الحكومة بأنه يربي الأيتام لتنشئتهم على فكر متطرف كما فعلت روسيا من قبل، وتجسسوا على اتصالاته في وقت من الأوقات، لكنه تمكن في السبعينات من تحقيق حلمه وكان يطوف العالم لإحضار أحدث الأجهزة الطبية لعلاج المحتاجين بالمجان وهو ما دعا أصحاب المستشفيات الاستثمارية للصراخ في وجهه متهمينه بأنه "يخرب بيوتهم"!
تمكنت الجمعية من إرسال قوافل للأماكن النائية أيضا وتضاعف رأس مالها كثيرا لأقبال الناس عليها ، وتطورت لتلبي حاجات الغذاء والملبس أيضا وتوفير فرص عمل للشباب عبر مشروعات مبتكرة ورعاية الباحثين الذين صدمهم تجاهل الدولة لمشاريعهم الهامة ومنها بحث لتحويل زعازيع القصب لعلف ماشية .
التصوف وأزمة الشفاعة
" العبارة لا تكشف الحقيقة .. ولو أنها تكشفها ما بقي على وجه الأرض كافر " أبوالعزايم
تعرض الدكتور مصطفى محمود لشائعات كثيرة وصدمات بسبب أفكاره، فقالوا أنه ألحد وكفر، وكان ذلك يؤلمه، لكنه لم يكن يمنعه من مواصلة بحثه المنهجي ، وكان كتابه "التفسير العصري للقرآن" قد سبب في تهديده بالقتل، أما كتابه "الشفاعة" فسانده في البداية شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي، قبل رحيله، ولكنه تخلى عنه بعد الهجوم عليه، وكانت فكرته تتلخص في إثبات القرآن كمصدر أساسي للتشريع والتفكير فيما يرد إلينا من نصوص الأحاديث الشريفة لأن كثير منها يمكن أن يخالف القرآن ويكون موضوعا على الرسول .. وقال فيما تضمنه الكتاب أيضا أن الشفاعة لله وحده والاستثناء لمن رضى من عباده ، وبالتالي فليس لنا إلا عملنا وعدم الاتكال على شفاعة الشافعين وأولهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد ظل مصطفى محمود على إبحاره في بحور العشق الإلهي قارئا زاهدا، كان كما يصفه واضع المذكرات الكاتب السيد الحراني يستيقظ مبكرا ويكتفي في يومه بطعام يسد رمقه بالكاد، وينهمك طيلة ساعات اليوم في كتابة وقراءة وتأمل بلا انقطاع، حتى إذا جاءته ابنته تسأله عن عزلته رد عليه "لا تقلقي .. الله معي" ..
يقول السيد الحراني : لقد أصيب مصطفى محمود بنهاية حياته بأعراض الزهايمر .. نسى الحروف .. ونسى الكتابة .. وبقيت تلك المذكرات شاهدة على ما أراد الله له أن يستمر .. ولكن الله طوى مع الراحل العظيم أسرارا كثيرة .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.