انتخابات مجلس الشيوخ 2025.. محكمة الأقصر تتلقى أوراق 9 مرشحين في اليوم قبل الأخير    بدء اختبارات الالتحاق بمدارس التمريض 2025 بالمنيا (الموعد والمكان)    صعود 8 مؤشرات قطاعات بالبورصة بجلسة الأربعاء على رأسها "السيارات"    رئيس الوزراء: سفن التغييز تبدأ الضخ في الشبكة القومية الأسبوع المقبل    رئيس الوزراء: برنامج خاص لتوفير وحدات بديلة للمستأجرين الأصليين في «الإيجار القديم»    الحوثيون: استهدفنا السفينة «إترنيتى» بزورق مسير و6 صواريخ باليستية    مدبولى: إجماع دولي على تأثير الأحداث الجيوسياسية على مؤشرات الاقتصاد    وزير الخارجية يستقبل مدير عام السياسات باللجنة اليهودية الأمريكية    وزارة الخزانة الأمريكية تعلن فرض عقوبات إضافية على كيانات مرتبطة بإيران    وزير الرياضة يهنئ منتخب السلة بالفوز بلقب البطولة العربية للسيدات    بعد أزمة وسام أبوعلي.. فرمان صارم من الخطيب للاعبي الأهلي    محكمة إسبانية تحكم بسجن أنشيلوتي عامًا بتهمة التهرب الضريبي خلال فترته الأولى مع ريال مدريد    مدبولي: نقل الإنترنت ل«سنترال الروضة»    جهود مكثفة للبحث عن مفقودين في حادث سقوط سيارة من معدية دشنا في نيل قنا    ب «ابتدينا».. عمرو دياب يدخل قائمة أعلى الألبومات استماعا في العالم (تفاصيل)    «رصد خان وولاد العفريت الزرق».. مشروعات تخرج قسم علوم المسرح ب«آداب حلوان»    عثمان سالم يكتب: إدارة احترافية    زينة عامر وچنا عطية تتوجان بذهبية تتابع الناشئات ببطولة العالم للخماسي الحديث    بعد تصدرها التريند.. كل ما تريد معرفته عن سكك حديد مصر    رئيس الجامعة البريطانية بالقاهرة يلتقي سفير مصر بالمملكة المتحدة    أشرف صبحي: لم يكن في الخطة تطبيق بند ال8 سنوات بأثر رجعي    الرياضية: جيسوس يوقع على عقود تدريب النصر يوم الخميس    ندوة لصناع "قهوة المحطة" بمكتبة الإسكندرية ضمن معرض الكتاب    توجيه رئاسى    إخماد حريق اشتعل بكشك فى شارع فيصل.. صور    تاريخ جديد بالأفعال.. لا بالأقوال    جولة موسعة بمنطقة "القنطرة غرب الصناعية" لمتابعة المشروعات والمصانع الجارى إنشائها    الكوليرا تفتك بالسودان.. 85,531 مصاب و 2,145 حالة وفاة نقص فى المستلزمات الطبية والأدوية    عيسى السقار نجم حفل "هنا الأردن.. ومجده مستمر" في "مهرجان جرش"    الأزهر للفتوى الإلكترونية: الالتزام بقوانين ضبط أحوال السير والارتفاق بالطرق من الضرورات الدينية والإنسانية    رابط نتيجة الدبلومات الفنية 2025 بالاسم ورقم الجلوس    وفاة طالب إثر إصابته بلدغة ثعبان في قنا    السجن 3 سنوات لمتهم بإحراز سلاح نارى بدون ترخيص فى سوهاج    رياضة كفر الشيخ توجه الدعوة لانعقاد الجمعيات العمومية ب 22 نادى رياضى    كوريا الشمالية: وزير خارجية روسيا يزور بيونج يانج بعد غد    فتح باب التقديم مجددًا للمستبعدين من إعلان «سكن لكل المصريين 5»    بدايًة من 12 يوليو.. أماكن امتحانات كلية التربية الفنية في المحافظات لتأدية اختبارات القدرات لعام 2025-2026    إعادة تخصيص 6 قطع أراضي لصالح جهاز مستقبل مصر    وصل ب إيراداته إلى 132.6 مليون جنيه.. تفاصيل أحدث أفلام كريم عبدالعزيز    ليلى عبد اللطيف تتوقع ل4 أبراج زيادة فى الدخل خلال يوليو.. أبرزهم الميزان    تارا عماد: أجسد صحفية بحكاية "just you" بمسلسل "ما تراه ليس كما يبدو"    الشرع وعبدي يبحثان مستقبل سوريا برعاية أميركية ( تحليل إخباري )    أفضل دعاء للرزق بالولد وفقًا للقرآن والسنة    وكيل الأزهر: «المشروع الصيفى القرآنى» مبادرة تعزز دور الأزهر فى خدمة كتاب الله    الأزهر للفتوى: متوفين سنترال رمسيس "شهداء".. ويشيد بدور رجال الاطفاء    من «الميكسات» الخطر.. استشاري تغذية تحذر من الشاي بالحليب    صحة الوادي الجديد: جميع شبكات الاتصال تعمل بكفاءة عالية    إجراء 12 عملية قلب خلال أول يومين عمل بمستشفى طنطا الجديدة    لم يعد مرضا نادرا.. إطلاق دمية باربى للأطفال مصابة ب السكر ومعها أنسولين    "تاس": القوات الروسية تستولي على بلدة "تولستوي" شرقي أوكرانيا    انخفاض جديد للطن.. سعر الحديد اليوم الأربعاء 9 يوليو 2025 محليًا    الجدول الزمنى لإجراء لانتخابات الشيوخ مع بداية خامس أيام تلقى أوراق الترشح    لاول مرة مساعد رقمى يتنبأ بالخطر بالمحطات النووية قبل وقوعه ب30 دقيقة    عودة خدمات فوري إلى كفاءتها التشغيلية بعد حريق سنترال رمسيس    إحباط ترويج ربع طن مخدرات ب34 مليون جنيه| صور    وزير الصحة يبحث مع المدير الإقليمي للصحة العالمية التعاون في ملفات المبادرات والتحول الرقمي    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 9-7-2025 في محافظة قنا    البابا تواضروس الثاني يلتقي الدارسين وأعضاء هيئة تدريس الكلية الإكليريكية بالإسكندرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"مذكرات مصطفى محمود" .. أسرار يرويها "فيلسوف الشرق" لأول مرة قبل الرحيل
نشر في محيط يوم 24 - 10 - 2013

- الأب يتبرع بربع راتبه الضئيل .. ويهديه ابنه الكتب
-حكايات انفجار المعمل الصغير والجثة والعزف في الأفراح
- في المشرحة ترى الله في كل شيء
محمود يواجه تهم التكفير بعد "الله والإنسان" و"الشفاعة"
عصر عبدالناصر يشبه النازية .. والسادات داهية السياسة الذي أحببته
رفضت شعار "الإسلام هو الحل"
مواقف مع الأزهر وعبدالقدوس والشناوي وهيكل وعبدالوهاب|
رسالة الحياة : مواجهة شبح الفقر والمرض و.. معرفة الله بالعلم
هي بلا شك واحدة من أهم الخبطات الصحفية، تلك التي أقدم عليها الكاتب الصحفي الشاب السيد الحراني حين اخترق حياة العزلة التي اختارها العلامة الكبير مصطفى محمود لنفسه ، واستطاع أن يقترب منه ويستمع لأسرار حياته ورحلاته العجيبة حول العالم وتأملاته الفلسفية التي جلبت عليه موجات الهجوم والتكفير والمنع .. وظل مع ذلك عنيدا ووفيا لضميره وقلمه منذ مرحلة الشك الفلسفية التي قادته ليقين العارفين بالله والسواحين في دنياه بلا حدود ..
المذكرات التي أصدرتها دار "اكتب" مؤخرا صارت بين أكثر الكتب المصرية والعربية مبيعا في وقت وجيز، وتحمل السطور التالية جولة بين سطور مذكرات العلامة الكبير في رحلته الخالدة بين "العلم والإيمان"
بدايات .. غير عادية
"الناجح هو ذلك الذي يصرخ منذ ميلاده جئت لأختلف .. لا يكف عن رفع يده ليحط بها كل ظلم وباطل"
ولد مصطفى محمود في 27 ديسمبر 1921 بمحافظة المنوفية، وكان الابن التاسع في أسرة كبيرة، الأم والأب كلاهما سبق له الزواج مرتان وأنجبا حفنة من الصغار أحسنا تربيتهما على الخلق القويم، وقد كان مصطفى محمود توأم لشقيقه "سعد" الذي سرعان ما غادر الحياة وهو في مهده ليخلف لتوأمه بداية الشعور بالموت المحلق حولنا في كل مكان .. أيضا كان من أبرز أشقائه محافظ الدقهلية الأسبق.
وبامتنان خاص يتذكر محمود خوف أمه عليه باستمرار لاعتلال صحته المستمر وضعفه وسعيه لتجربة كل شيء بجرأة منقطعة النظير، ولعل ضعف صحته كان دافعا له لحالة النهم المبكرة في القراءة وكان يميل لكتب سلامة موسى وشبلي شميل وغيرهما، وكان تيار الوجودية سائدا بتلك الفترة بعد الحرب العالمية الثانية. كان أبوه لا يبخل عليه بالكتب وكان مثقفا من طراز رفيع هو الآخر، وقد اصطحب الأسرة لمنزلهم الجديد بالقاهرة، وعلى رقة حال أبيه حيث كان موظفا بديوان عام المحافظة كان يتبرع بربع راتبه للفقراء، فكانت الثمرة هي البركة في القليل وبيت يشمله الحب والاكتفاء .
بدأت بذرة الشك تنبت عند فيلسوف الأطباء منذ الطفولة المبكرة حين قدم لهم شيخ الكتاب ورقة يلصقونها على الجدران لمنع الصراصير، فلما وجد الصبي أن تلك الحشرات قد زاد انتشارها بدأ يشك في كل شيء .. وحين دخل المدرسة كان يميل لمواد الجغرافيا والطبيعة واشتهر بتفوقه الدراسي وكان يحتل التقدير الأول دوما، ولا ينسى محمود ذلك المعمل الصغير الذي صنع منه هو ورفيقه فرج العطور والمبيدات وكانا لا يزالان في طفولتهما، ثم انفجر ، فقرر أبوه تفكيكه .
أيضا لا ينسى محمود حبه للموسيقى منذ الصغر، واشتهاره بالصوت العذب فضلا عن ذلك، فكان إلى جانب دراسته في كلية الطب يذهب لإحياء الحفلات والأفراح خلف إحدى الراقصات وهو ما جلب عليه غضب أسرته واساتذته وزملائه !
ومن المواقف الطريفة التي يرويها مصطفى محمود في مذكراته ، أنه كان مشهورا ب"المشرحجي" بين رفاقه بكلية الطب لأنه يمضي ساعات طويلة بالمشرحة ، ولعلها كانت بداية تعلقه بالله ويقينه بوجوده، فكل شيء فان إلا وجهه وجسد الإنسان تموت خلاياه وتتجدد بأمر منه وحده . وقد أحضر معه مرة للمنزل جثة رجل سمين مغطاة بالفورمالين وهو ما تسبب بفزع رهيب عند أمه التي قررت عدم تنظيف حجرته أبداً !
من المواقف الطريفة أيضا أن مصطفى محمود كان قد أصابه وهن بجسده جعل الطبيب يظن أنه مات حين خفتت نبضات قلبه، فكفنوه ووضعوه بتابوت، وقد أفاق ليجد نفسه في ظلمته الدامسة !!
أما المواقف القاسية التي لا ينساها فكانت حين بدأ ميله للصحافة يزداد ، وقرر هجر بيته والعيش منفردا للكتابة للصحف، وكان ذلك بعد تخرجه من الكلية وتعيينه بمستشفى الحميات بألماظة ، وكانت فترة قاسية حقا عليه، اكتشف فيها أن الصحفي يحتاج لمصدر رزق آخر يعينه ، وبعد أن أصابه التيفود عاد لبيته من جديد.
ولا ينسى د. مصطفى محمود أن الراحل العظيم كامل شناوي كان أول من نشر مقالاته بمجلة آخر ساعة، وستمر الأيام ويكون هو من يتوسط له لدى هيكل بعد منع عبدالناصر الأديب من الكتابة غضبا من هجومه اللاذع على النظام.
كان أنيس منصور ، الفيلسوف والأديب اللامع، بين أبرز أصدقاء مصطفى محمود، ويتذكر كم كانت مشاغباته له حين ينزل للمطبعة ليلا ليمحو توقيعه "م . م" ويبدله ب"م . ع " ..
محنة التكفير والمصادرات
"نحن نساعد في خلق الأباطرة .. بل نحن الذين نصنعهم بأنفسنا"
حفلت المرحلة الناصرية بمفاجآت غير سارة لأديبنا الكبير، وخاصة أنه كان دائم الهجوم على عبدالناصر ويرى أن نظامه أخرج المصريين من عبودية ليدخلهم في عبودية جديدة لمجلس قيادة الثورة . وكان مصطفى محمود يهاجم مجانية التعليم الجامعي بلا ضوابط والتي تسببت في بوار الزراعة والبطالة المقنعة ناهيك عن تدني مستوى جودة التعليم للحضيض.
كان محمود يرى أن نظام ناصر هو السبب في هزائمنا وأنه أفقد مصر سيناء والسودان معا، وأنه تعلم درس الشيوعية الأول بضرب الطبقات الاجتماعية ببعضها والاحتفاظ بسفينة النجاة الأخيرة حتى يلجأ الكل إليه . وقال أن الخمسين بالمائة نسبة عمال وفلاحين بالبرلمان كانت مجرد رشوة لهم لتأييد النظام، بينما هي في الحقيقة كوابح تعطل تطور المجتمع .
قادت الأقدار أديبنا الكبير ليصادق الدكتور أنور المفتي الطبيب الشخصي لجمال عبدالناصر ، فقد كانا زملاء طب معا في الماضي، واكتشف من خلاله أن ناصر كان لا يحب المخالفين لأوامره، ويضع مصطفى محمود علامات استفهام كبيرة حول لغز الموت المفاجيء لهذا الطبيب الكبير وللمشير عبدالحكيم عامر ، وكلاهما برأيه مات مسموما بنوع نادر يملكه النظام من السموم وكان يسلمه صلاح نصر بالميزان !!
كان هجوم مصطفى محمود المتكرر على النظام وتشبيهه لهم بنازية هتلر سببا في نقمة ناصر عليه، وقد أمر بمنعه من الكتابة، ورغم مساندة الكاتب الكبير إحسان عبدالقدوس له ورده على ناصر بأنه لا يستطيع أن يقصف قلما حرا بصحيفة روزا اليوسف، لكن ناصر تمسك برايه .. وكان مصطفى محمود يرى أن محمد حسنين هيكل وراء كل النقمات التي تعرض لها الكتاب والمثقفين في العصر الناصري، وأنه كان الحاكم الفعلي ، والمؤلف لكتاب "فلسفة الثورة" وهو الذي أوحى لناصر بكل مباديء الاشتراكية التي نادى بها!
في تلك الأثناء كان مصطفى محمود قد أصدر كتابه "الله والإنسان" ويحمل درجة عالية من الشك في الذات الإلهية والبعث بالفعل، وهي أفكار تراجع عنها محمود وأعلن ذلك بل ووضع نسخة منقحة منه باسم "حوار مع صديقي الملحد"، فما كان من الشيخ الجليل حسن مأمون شيخ الأزهر والمفتي آنذاك إلا أن رد ردا بليغا على كتابه، أنكر فيه ما هو منكر وأشاد بما لم يكن الكاتب يعلم أنه من أصول الإسلام الذي يدعونا للعمل والتفكير الحر ، ولم يشأ أن يشهر به كما يقوم بعض المتطرفين اليوم حين يمسكون بسطر من كتاب ويقدمونه دليلا على كفر مؤلف بعينه فلا يستفيد المجتمع شيء بعد ذلك.
وربما قبل أن ننتقل للسادات وما قاله محمود عنه، نندهش من أنه وصف الرئيس حسني مبارك بأنه ورث التركة الفاشلة ، وقام بأضعاف ما قام به ناصر في صمت وبلا ضجيج أو اعتقالات!!
الصديق الشخصي للسادات
"الاستسلام للمنطق وحده يخنق أجمل ما في الإنسان .. روحه وضميره"
كان الرئيس محمد أنور السادات "داهية سياسي" كما يصفه مصطفى محمود، فهو تظاهر بالتبعية لفكر ناصر رغم علمه بعواقبه، وحاول إصلاح كل ذلك حين أصبح رئيسا، وكان يمتلك مقومات خاصة أهلته للعب هذا الدور، ومن ذلك أنه كان مثقفا من طراز رفيع وهذا لم يسلط عليه الضوء بشكل كافٍ حتى الآن، وكان يراسل منذ صباه الصحف ويكتب مقالات باستمرار لصحيفة الجمهورية وغيرها، وخرج براءة بعد محاكمته في قضية مقتل أمين عثمان، ثم أعيدت محاكمته بتهمة التخابر مع الألمان ضد الإنجليز، وهي تهمة شريفة بميزان الوطنية وقد أنجته الثورة منها.
ويحمد للسادات برأي مصطفى محمود أنه فتح الباب أمام كل التيارات الوطنية في البلاد بلا استثناء، وربما مال في سنواته الأخيرة للتوجس من جماعات دينية متأسلمة ومتطرفة، كانت السبب في مقتل الشيخ الذهبي وزير الأوقاف وكثير من الأبرياء .
عرض السادات على مصطفى محمود أن يتولى حقائب وزارية عدة ومنها الأوقاف والثقافة، ولكن الأخير رفض بشدة، وأجاب بقوله المشهور "إذا كنت فشلت في إدارة أصغر وحدة وهي بيتي فهل أنجح في إدارة وطن بأكمله" لكن الاعتذار لم يمنع صداقتهما، وظلت لقاءاتهما في يوم جمعة من كل شهر مستمرة بفيلا السادات بالهرم وفي شبين الكوم بالمنوفية متواصلة غير منقطعة، كان السادات يسأل محمود في كل شيء عن مصر قبل الحرب وبعدها وعن أمريكا وحقيقة الدور الذي تمارسه في المنطقة، وعن حقيقة الجماعات الإرهابية المنسوبة للإسلام زورا ، وسأله عن جماعة الإخوان وكان رد مصطفى محمود بخصوص المسألة الأخيرة أن العمل الدعوي لابد أن ينفصل عن العمل السياسي، وأنه يرفض بشكل قاطع شعار " الإسلام هو الحل" لما فيه من التفاف على الدين لتحقيق أغراض دنيوية بحتة برأيه.
في تلك المرحلة استطاع مصطفى محمود أن يخرج للنور مسرحياته التي طالما تحدثت عن ديكتاتورية جمال عبدالناصر ومنها "الإسكندر الأكبر" ،"الإنسان والظل" و"الزلزال". وكان يسعد كثيرا باهتمام السادات ببرنامجه "العلم والإيمان" والذي كرس له أغلب سنوات حياته وحظى بمشاهدة الملايين حول العالم وقيل إن إسرائيل كانت وراء توقفه.
نساء في حياتي
"الحب هو الألفة ورفع الكلفة، أن تصمتا انتما الاثنين فيحلو الصمت، ويتكلم احدكما فيحلو الاصغاء "
تحدث مصطفى محمود في مذكراته عن زيجتين انتهيتا بالفشل، فكانت ملكة جمال قلبه سامية تكثر من الغيرة عليه، وقد تعرف عليها حين أنشأ لأول مرة في صحف مصر بريد القراء وردود على مشكلاتهم وكانت هي واحدة من المتصلات، وقد دام زواجهما عشر سنوات، أثمرت عن أمل وأدهم أجمل ما في حياته على الإطلاق .
أما الزيجة الثانية فجاءت متأخرة بعد أن وصل لسن الستين وقد التقى بالسيدة "زينب" مأمورة الضرائب بمكتب مفيد فوزي بمجلة صباح الأخير وكانت تصغره بخمسة وعشرين عاما ، وتزوجا في المدينة المنورة، واستطاعا تأسيس جمعية محمود الخيرية، لكنها كأي امرأة أرادت أن تحصل على نصيب من اهتمام زوجها، فلم تجده إلا ناسكا عابدا متأملا في محرابه الصغير فوق الجمعية.
سواح في دنيا الله
مذكرات مصطفى محمود حافلة برحلاته حول العالم وطرائف كثيرة صادفها، منها قبيلة نمنم والتي لا يعمل فيها الرجال ، وقبائل الشيلوك والدنكا التي تعرف على دياناتهم العجيبة والتي منها عبادة النهر والأسد والنار، وهي قبائل تعيش بلا ملابس تقريبا ، والطوارق الذين يعتبرون الفم عورة ويعيش الرجال ملثمون والنساء متبرجات ، ورأى محمود قبائل ليس فيها الزواج بل تعيش على إباحة الزنا بشرط عدم الإنجاب ! وشاهد الحملات التبشيرية التي تتزاحم في تلك الأماكن النائية تحت شعار التحديث والتنمية،
طاف مصطفى محمود بدول أوروبا ليشاهد أفكار عبثية تنكر الخالق أحيانا ، ويشاهد احترامهم للعمل كما انبهر بروما التي تحتضن الفن الروماني بكل شبر فيها .. وحقق الدكتور مصطفى محمود حلم حياته بزيارة طويلة للهند شاهد فيها ديانات لا حصر لها وعاداتهم الخارقة عبر التعاويذ الروحية الخاصة
جمعية محمود الخيرية
"بالفعل لا أحد ينكر أننا في زمن التكنولوجيا الصماء أصبحنا أغبياء نحن نأكل الجوع ونشرب الظمأ ونموت جهلاء كما ولدنا نحن لا نعرف من أين وإلى أين .. أليس هذا هو الجنون ؟"
لم يكن مصطفى محمود يتخيل كم الحرب التي سيواجهها لتحقيق حلم حياته في تأسيس جمعية تكافيلة من خلال مسجده، فقد اتهمته الحكومة بأنه يربي الأيتام لتنشئتهم على فكر متطرف كما فعلت روسيا من قبل، وتجسسوا على اتصالاته في وقت من الأوقات، لكنه تمكن في السبعينات من تحقيق حلمه وكان يطوف العالم لإحضار أحدث الأجهزة الطبية لعلاج المحتاجين بالمجان وهو ما دعا أصحاب المستشفيات الاستثمارية للصراخ في وجهه متهمينه بأنه "يخرب بيوتهم"!
تمكنت الجمعية من إرسال قوافل للأماكن النائية أيضا وتضاعف رأس مالها كثيرا لأقبال الناس عليها ، وتطورت لتلبي حاجات الغذاء والملبس أيضا وتوفير فرص عمل للشباب عبر مشروعات مبتكرة ورعاية الباحثين الذين صدمهم تجاهل الدولة لمشاريعهم الهامة ومنها بحث لتحويل زعازيع القصب لعلف ماشية .
التصوف وأزمة الشفاعة
" العبارة لا تكشف الحقيقة .. ولو أنها تكشفها ما بقي على وجه الأرض كافر " أبوالعزايم
تعرض الدكتور مصطفى محمود لشائعات كثيرة وصدمات بسبب أفكاره، فقالوا أنه ألحد وكفر، وكان ذلك يؤلمه، لكنه لم يكن يمنعه من مواصلة بحثه المنهجي ، وكان كتابه "التفسير العصري للقرآن" قد سبب في تهديده بالقتل، أما كتابه "الشفاعة" فسانده في البداية شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي، قبل رحيله، ولكنه تخلى عنه بعد الهجوم عليه، وكانت فكرته تتلخص في إثبات القرآن كمصدر أساسي للتشريع والتفكير فيما يرد إلينا من نصوص الأحاديث الشريفة لأن كثير منها يمكن أن يخالف القرآن ويكون موضوعا على الرسول .. وقال فيما تضمنه الكتاب أيضا أن الشفاعة لله وحده والاستثناء لمن رضى من عباده ، وبالتالي فليس لنا إلا عملنا وعدم الاتكال على شفاعة الشافعين وأولهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد ظل مصطفى محمود على إبحاره في بحور العشق الإلهي قارئا زاهدا، كان كما يصفه واضع المذكرات الكاتب السيد الحراني يستيقظ مبكرا ويكتفي في يومه بطعام يسد رمقه بالكاد، وينهمك طيلة ساعات اليوم في كتابة وقراءة وتأمل بلا انقطاع، حتى إذا جاءته ابنته تسأله عن عزلته رد عليه "لا تقلقي .. الله معي" ..
يقول السيد الحراني : لقد أصيب مصطفى محمود بنهاية حياته بأعراض الزهايمر .. نسى الحروف .. ونسى الكتابة .. وبقيت تلك المذكرات شاهدة على ما أراد الله له أن يستمر .. ولكن الله طوى مع الراحل العظيم أسرارا كثيرة .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.