كان والدي ( رحمه الله ) يحدثني انه عندما وقع العدوان الثلاثي على مصر في اعقاب تأميم قناة السويس سنة 1956 كان الناس عندنا في بغداد يتجمعون في المقاهي متحلقين حول اجهزة الراديو القديمة الكبيرة الحجم ليتابعوا اخبار العدوان وغارات الحلف الثلاثي على المدن المصرية من خلال الاذاعة المصرية .. حيث لم يكن معظمهم يمتلك جهاز راديو في منزله ... هذا طبعا قبل ظهور التلفزيون ..... المهم ... يقول الوالد ان الشارع العراقي كان يشتعل غضبا وحزنا لما يجري لمصر .. وكان الغضب يتصاعد اكثر على حكومة رئيس الوزراء ( في حينه ) نوري السعيد الذي كان بحق رجل الاستعمار البريطاني في المنطقة .. ففي هذه الاجواء المشحونة كانت اذاعة بغداد تذيع وبشكل متكرر اغنية عراقية احتفالية يقول مطلعها ( الليله ليله من العمر تسوى الف ليله ... يا بيض غنن يا سمر بالفرح هالليله ) !! كتعبير عن شماتة رئيس وزراء العهد الملكي في العراق بمصر عبد الناصر وابتهاجا بالعدوان البريطاني الفرنسي الاسرائيلي على مصر !! كان نوري السعيد قد سارع الى ضم العراق الى حلف بغداد ( حلف السنتو ) سنة 1955 بمباركة بريطانية .. وكان من بين اهداف الحلف التصدي لمشاريع عبد الناصر التحررية والوحدوية .. اما عبد الناصر فقد اختار في نفس السنة الانضمام الى حركة عدم الانحياز كعضو مؤسس ( مؤتمر باندونج 1955 ) بالاضافة الى ابرامه اكبر صفقة لتوريد اسلحة سوفيتية لمصر عن طريق تشيكوسلوفاكيا .. تلك الخطوة التي اعتبر مؤشرا على قرب الطلاق النهائي بين مصر والغرب فيما سمي بكسر احتكار السلاح .. وهي تحولات تدريجية كانت تنبئ بالمواجهة القادمة وصولا الى العدوان الثلاثي ...... كانت اذاعة القاهرة تبث خطابات عبد الناصر المفعمة بروح التحدي والكرامة .. سنقاتل .. سنقاتل .. سنقاتل ...!! وفي هذه الاجواء حسم العراقيون امرهم ( يسقط نوري السعيد ... ويسقط الحكم الملكي ) وذلك ما استدعى اندلاع مظاهرات صاخبة تطالب بنجدة مصر واسقاط حكومة السعيد كمطلب فوري .. صمدت مصر وانتصر التأميم واجبر المعتدون على الانسحاب ... وبقيت الساحة العراقية في انتظار من يأتي ليضع خاتمة الحكم الملكي في العراق ومعه نوري السعيد ... وفي فجر يوم الرابع عشر من يوليو 1958 قامت مجموعة من ضباط الجيش العراقي باطاحة الحكم الملكي واعلان الجمهورية العراقية .. يقول الوالد : اذيع بيان الثورة من اذاعة بغداد فجرا فخرجنا الى الشوارع لتأييد الثورة .. ولم يكن احد منا يعرف من هم قادة الثورة .... فرفعنا صور جمال عبد الناصر !! .. اما نوري السعيد فقد ظل يتنقل متسترا بين عدد من بيوت بغداد .. على امل حصول تدخل بريطاني او امريكي .. لكنه لسوء حظه وقع في قبضة الجماهير اثناء مروره بقرب احدى المظاهرات متنكرا في عباءة امرأة !! حيث لا حظ احدهم وجود شعر في رجليه !! فقتل في الحال ........ تذكرت كلمات والدي ( رحمة الله عليه ) وذكرياته عن تلك الايام ... وهي بكل تأكيد مثال لما تتمتع به مصر من قدرة على التأثير والالهام ... وسألت نفسي : اذا كان والدي ورفاقه قد رفعوا صور جمال عبد الناصر في شوارع بغداد لكونه الملهم الحقيقي لثورة 14 تموز 1958 في العراق وثورات تحررية كثيرة في عالمنا العربي ... فمن عساي ان ارفع صورته اليوم في شارعي ؟؟؟؟ فأجبت على الفور ..... انها ..... باتأكيد ...... لن تكون صورة عبد الفتاح السيسي !! ..... وما زلت ابحث عن صورة !!