لم تنته العلاقة بيننا وبين صوت المقرئ الجليل الشيخ محمد رفعت بإنتهاء شهر رمضان ، بل على العكس فإن الأيام التالية لشهر الصوم والعبادة تعد فرصة لتدارس ماسمعناه من آيات الذكر الحكيم على مدى ثلاثين يوماً والتعرف عن قرب على الشخصية الدينية الفذة . لاتزال الظاهرة الصوتية لرفعت هى الأكثر تفرداً وجذباً منذ ميلاده فى عام 1872 وحتى الآن ، فالطفل النابغة الذى فقد البصر فى الثانية من عمرة إمتلك حنجرة ماسية جعلته ينفذ إلى القلوب بسرعة الصوت ويمثل بصيرة لكل المريدين والمحبين كأن خواص النظروالؤية إنتقلت إلى صوته وإحساسة فصار صاحب الإمتياز الأول فى العذوبة والتأثير . إحترف محمد رفعت قراءة القرآن بعد أن حفظه عن ظهر قلب بالكتاب الكائن بشارع البغاله بالسيدة زينب وهو الشارع الذى سمى بإسمه فيما بعد .. توفى والده إبان حصوله على الشهادة الأزهرية واعتماده شيخاً بالأزهر الشريف فعمل على قراءة القرآن فى المناسبات حتى ينفق على نفسة وأهلة فذاع صيته واشتهر بأدائه المؤثر الرصين ، لاسيما أنه كان يتميز بسمه خاصة أثناء القراءة والتجويد ، ألا وهى إنسياب الدموع من عينيه خشوعاً وضروعاً مما أدى للإلتفاف حوله والتجاوب مع إحساسه المرهف . على هذة الخلفية الإيمانية وتلك المقدرة الفذة فى التأثير إتفقت الإذاعة المصرية فى وقت مبكر مع المقرئ الشاب على إحياء الليالى الرمضانية بما تيسر من الأيات مقابل مائة جنية طوال الشهر الكريم ، وما إن بدأ رفعت لياليه القرآنية بالإذاعة حتى أصبح ناراً على علم ينتظره العامة والخاصة كل يوم أمام الراديو . وقد تجاوز تأثيره المحيط المحلى إلى العالمية وأخذت الإذاعات الأجنبية تذيع عبر شبكاتها الموجهة ما يقوم بقراءته وتسجيله لخطب ود المسلمين بالدول الإسلامية لضمان تأييدها فى الحرب العالمية الثانية ، بل إن إسرائيل وهى الدولة العدوة تناول إعلامها ظاهرة الشيخ رفعت بنوع من الإجلال والتوقير واعترفت بموهبة الرجل الفائقة فى التأليف بين القلوب بما يمتلكة صوتة من خصائص ومزايا روحانية خصه اللة بها دون سائر الأصوات . لم يأخذ الشيخ الجليل موقفاً معادياً من الموسيقى ولم يُحرمها ، وإنما سعى إلي العزف على العود ودراسة المقامات الشرقية ليثقل موهبته بالعلم ويتدرب كثيراً علي مهارات الصعود والهبوط والإنتقال من مقام إلى مقام بسهولة ويسر ودون أدنى معاناة .. مقام السيكا كان أقرب المقامات الموسيقية وأنسبها إلي صوته فمنه ينطلق عادة ، حيث يرفع بصوته الدرامي الرخيم الآذان ويبعث في قلوب المستمعين الخشية . إرتبط وجدان الشيخ بالموسيقى فاقترب هو على المستىوى الشخصي من أعلامها ، سلامه حجازي وصفرعلي وكامل الخلعى وعبده الحامولي وسيد درويش ، وأخذ عنهم القواعد الموسيقية وأصول الترتيل والتجويد وعلم الأصوات ، وبعد الرواد الأوائل عر ف رفعت وسعى إليه جيلاً آخر نبغ منه عبد الوهاب والسنباطى وأبو العلا محمد وأم كلثوم ، غير أن محمد عبد الوهاب كان هو الأقرب علي وجه الخصوص من أستاذة ، إذ ظل يجلس تحت قدميه وهو يقرأ القرآن معتبراً نفسه في محراب قطب كبير علي حد قوله واعترافه . زادت حيثية القارئ الكبير فاتسعت دائرة صداقاته وعلاقاته وشملت الملوك والأمراء والرؤساء ودُعي رسمياً إلي العديد من الدول العربية والإسلامية لإحياء مئات الحفلات والمناسبات الدينية ، وقد كان له النصيب الأوفر من الأموال والهدايا ، ولكنه أنفق الكثير علي فعل الخير وأعمال البر والتقوى ولم يدخر شيئاً لأيام الضجر والمرض وأستمر يواصل عطائه بسخاء وكرم ورفض أن يكون لميكروفون الإذاعة المصرية بديلاً فأثيرها هو ما يحمل صوته للعالم كله فلا حاجة إذن لهجرته والسعي لمال أكثر في وطن آخر أعجمي أو عربي وهو الزاهد الورع ، لقد عرضت دولة الهند عليه مبلغ ثلاثة آلاف جنيهاً في الشهر مقابل الإقامة بها والقراءة في إذاعتها وكان لهذا المبلغ إعتباره القوي وقت عرضه في الأربعينيات من القرن الماضي ولكنه أبا أن يترك موقعه ومنصته الإذاعية المهمة والرئيسية وفضل الجنيهات القليلة علي الآلاف مقابل دفء بلاده ووطنه وأهله وناسه ومريديه . منح أحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكي الشيخ محمد رفعت قطعة أرض من ممتلكاته الخاصة فأقام عليها مدفناً له ليكون مرقده واستراحتة الأخيرة ، ومضى يتردد عليه يومياً لمدة ثلاث سنوات يقرأ فيه القرآن ويهيأه لاستقباله وبالفعل نام فيه الرجل نومه الطويل بعد صراع مع المرض إثر إصابته بورم في الحنجرة أقعده عن القراءة وحرم الملايين من حلاوة وطلاوة صوته العذب السلسبيل ، ومن المآثر الدالة علي عفة ونزاهة وزهد صاحب الرسالة الدينية السمحة رفضه لما تم جمعه من تبرعات ماليه وصلت نحو مليون جنيه ليتمكن من العلاج بعد أن كتب الكاتب الصحفي فكري أباظة مقالاً يدعو فيه لعلاج الشيخ الكريم من مرض السرطان فلبت الجماهير من المحيط إلي الخليج الدعوة ، بينما جاء القرار من المريض النبيل بتحويل التبرعات إلي بند الصدقات ولم يكن يملك أي شيء بعد أن باع الغالي والنفيس بغير جدوى ، و استبد المرض بة وسكتت الحنجرة إلي الأبد وتوقف عزف قيثارة السماء .