عندما يستبد الطغيان ، و يكثر الظلم ، يظهر الثوار ، فلكل طاغية ضرس يقض مضجعه ، و فى " عالم و طاغية " كان سعيد بن جبير هو من أنهى جبروت الحجاج بن يوسف بثباته على الحق و محاربته للباطل ، حاك تلك الأحداث دكتور يوسف القرضاوى فى مسرحية تاريخية ، و التى مثلت للمرة الأولى ب " معتقل الطور " . و يحكى القرضاوى أن هذة المسرحية خطت لأول مرة و هو فى معتقل " هاكستيب " بمصر عام 1949 ، و قال أنه كان لا يزال طالبا و كل جريمته هو و من معه أنهم يدعو للإسلام الصحيح ، دينا و دولة ، عبادة و قيادة ، صلاة و جهادا ، مصحفا و سيفا ! و فى داخل المعتقل كان متنفسه كتب الأدب و التاريخ ، و لإعجابه الشديد بموقف العالم الشجاع سعيد بن جبير ووقفته أمام الطاغية الحجاج بن يوسف ليقول كلمة الحق ، قرر ان يؤلف تلك المسرحية التاريخية ، التى تم تمثيلها فى معتقل الطور و كان أبطالها المعتقلون أنفسهم . و إعاد القرضاوى كتابة المسرحية مرة أخرى منذ بضعة سنوات لضياع النسخة الأصلية ، و أرجع سبب ذلك لأن التاريخ يعيد نفسه و الطغيان متجدد ، و مازال هناك اضطهاد للدعوة الإسلامية ! سعيد بن جبير هو إمام من أئمة التابعين ، الذى قال عنه احمد بن حنبل " قتل سعيد بن جبير و ما على وجه الأرض أحد إلا و هو محتاج إلى علمه ". انضم بن جبير و غيره من العلماء إلى القائد عبد الرحمن بن الأشعث القيسى الذى أعلن الثورة على الحجاج و بنى أمية ، و زحف بجنوده على العراق ، و حقق الأشعث النصر فى أول الأمر ، و لكن هزمه الحجاج فى النهاية ، و قتل الكثير من جنوده و أسر العديد منهم و هرب الباقية و منهم بن جبير . و لكن لم يتوقف بحث الحجاج عنه لمده 11 عاما ، و قال القرضاوى انه لم يلتزم بما وصى الإسلام به فى معاملة الأسرى فقتل كثيرا منهم . المسرحية تتكون من ثلاثة فصول كثيرة تحكى بشكل درامى الفترة التى أعقبت معركة " الجماجم " التى انتصر فيها الحجاج و تصور فى فصولها كيف تعظمه حاشيته الفاسدة و تمتدح قوته فى مواجهة الثورة و العصيان المسلح ، و يأمر حرسه بإحضار الأسرى و يأمر بقتلهم ، و يواجهه أحدهم بقوله " إنكم تريدونها ملكا عضوضا و نحن نريدها خلافة و شورى ، تريدونها كسروية أو قيصرية ، و نحن نريدها قرآنية إسلامية " . فيتهمه الحجاج و من معه بالكفر لأنهم خرجوا على بيعة امير المؤمنين ، فيرد عليه إن خرجوا فقد خرجوا ضد الظلم و الطغيان فسفك دماء المسلمين و مصادرة اموالهم و بث الذعر بينهم ليس من الإسلام فى شئ ، فأمر الحجاج بقتله و من معه . و يصور القرضاوى فى مشهد آخر بن جبير و هو متخفى فى مكة فى دار أحد تلاميذه يعلمهم أن الرسول صلى الله عليه و سلم لم يخشى على أمته أحد أكثر من المنافق العليم فقال على بن ابى طالب عن الرسول صلى الله عليه و سلم " أما أنى لا أتخوف عليكم مؤمنا و لا مشركا ، فأما المؤمن فيحجزه إيمانه ، و أما المشرك فيقمعه كفره ، و لكن أتخوف عليكم منافقا عالم اللسان يقول ما تعرفون و يفعل ما تنكرون " ، فلسانه عارف و لكن قلبه لا يخشى الله ، ووصاهم بذكر الموت و الآخرة حتى لا تصدأ قلوبهم و يخفف من غرور الإنسان بالحياة و يعينه على خشية الله . و عندما سأل أحد الطلبة : " هل يظل الحق كسير الجناح ؟ يقتل دعاته و يعذب أهله و أنصاره ؟ فما بالهم ينتصرون و ننهزم ؟ فنهره بن جبير و قال له لقد ثار الفقهاء تاركين الكتب و الأقلام و حملوا السيوف ضد الحجاج ، و إن أرادوا أمرا فأراد الله غيره ، امتحانا لصبرهم و إيمانهم ، و أنه يكفى المرء أن يثبت على الحق ضد باطل مدجج بالسلاح حينها يكون منتصرا حتى و إن كان فى نظر الناس مهزوما ، و أن المحن و الآلام لحملة الرسالات . أما أهل الباطل فما هم فيه من نعيم فهو من مكر الله بهم و ذذر قوله تعالى " و جعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون " و قوله " ذلكم و لو يشاء الله لانتصر منهم و لكن ليبلوا بعضكم ببعض " . و بعد هروب دام 11 عاما قرر بن جبير إلا يواصل الهرب قائلا : لقد فررت و اختفيت حتى استحييت من ربى ، و ما قدره الله كائن " ، و تم وضعه فى زنزانة مع اثنين من العلماء هم عامر الشعبى و مطرف بن عبد الله . و تحدث العلماء عما سيفعلون ، فالمخرج من الموت و السجن أن يعترفوا أنهم خوارج كفروا بخروجهم على الحجاج ، فهل يفعلون ؟! ظل العلماء يتحاورون مقتنعين بأنه لا جدوى من الموت إن كانوا سيقتلون و يبقى الحجاج الظالم و دولة الطغيان ، ، فقرر الشعبى و مطرف أن يجيبوا بكلام ملتف على سبيل التورية ، و لكن أصر بن جبير على قول كلمة الحق أمام الظالم ، فقالوا له و هل إن قلتها سيزول جبروته فلابد من الصبر حتى تتهيأ فرصة اخرى . و لكن أصر بن جبير على رأيه قائلا كل شهيد يسقط يزلزل الأرض تحت اقدام الطغاة ، و أنه كما يحتاج الناس من يعلمهم الفقه ، فهم يحتاجون لمن يعلمهم الثبات على الحق فى وجه الطغاة . و عن أعوان الظلمة قال بن جبير أنهم من يغسل ثيابهم و يطهو طعامهم ، اما الحرس و الجنود و الحاشية فهم من الظلمة أنفسهم ، فهم يساهمون فى تعذيب خلق الله ، قائلا لعن الله فرعون و هامان و جنودهما فى قوله تعالى " إن فرعون و هامان و جنودهما كانوا خاطئين " ، و عندما قال الحارس أنه لا يستطيع أن يقول لا ، قال له الارزاق على الله ، ابحث عن عمل آخر و لا تشارك فى الظلم . و فى المواجهة وقف بن جبير أمام الحجاج بشجاعة قائلا له أنه جبار فى الأرض مسرف فى الدماء ، و أن الله تعالى قال " لزوال الدنيا أهون على الله من قتل امرئ مسلم " . و عندما خيره الحجاج كيف يريد أن يموت ، فأجابه بل اختر لنفسك يا حجاج ، فوالله ما تقتلنى قتلة إلا قتلك الله مثلها فى الآخرة ، و إن تفسد على دنياى أفسد عليك آخرتك . و بعد اسبوعين من إعدامه لابن الجبير ، استيقظ الحجاج من نومه مذعورا يدعى بأن بن جبير يريد قتله ، و يستعيد كلماته الأخيرة له قبل أن يعدمه ، و تعجب غلامه الحجاج الذى أخاف الألوف يخاف اليوم من شبح ، و اشتد فزع الحجاج حتى زفر زفرة الموت . و ختم القرضاوى مسرحيته بقوله تعالى " و لا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون ، إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار ، مهطعين مقنعى رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم ، و أفئدتهم هواء " .