يأبى الرجل الثلجي فلاديمير بوتين أن يهدأ قبل أن يستعيد الدب الروسي عافيته ، ويغرس أنيابه المتنامية في جسد المنظومة الدولية المتهاوية ، بفعل سياسة الرئيس الأمريكي باراك أوباما الإنعزالية ، التي تكرس مبدأ الهروب إلى الداخل الأمريكي بالابتعاد عن الانغماس في القضايا الكونية ، خاصة تلك التي تشتعل في منطقة الشرق الأوسط . وفيما بدت الأزمة السورية تراوح مكانها المشتعل بفعل الصراع العبثي الذي خلف ما يقرب من 100 ألف قتيل ، يستمر المجتمع الدولي في تفنيد حسابات المكسب والخسارة داخل سيناريوهات الصراع ، مع محاولات بائسة لتكريس أوضاع متوازنة على الأرض ، ليس فيها رابح أو خاسر من القوى المتصارعة، مع استمرار نزيف الأرقام والبيانات التي تحصى الدماء والخسائر المادية للشعب السوري. السيناريو الأقرب ومع استمرار المحاولات الرامية لخلق توازن عسكري بين القوات النظامية وشبيحة النظام وبين قوى المعارضة المسلحة ، بدا السيناريو الروسي المدعوم من إيران والصين هو الأقرب إلى التنفيذ ، تحت دعاوى متفاوتة تكرس بقاء بشار الأسد، وإدامة الصراع الدموي حتى يتبين الشركاء الدوليون طريقا واضحا لإخماد نيرانه المشتعلة. وجاءت تصريحات الرئيس الروسي حول قلق بلاده من حدوث فراغ سياسي في سوريا يشغله المتشددون إذا ترك الرئيس بشار الأسد السلطة حاليا، لتؤكد أن قبضة روسيا بدأت تستعيد عافيتها لتفرض سيناريو بقاء النظام العلوي ، وإجبار المعارضة المسلحة على التفاوض بلا بدائل أو شروط مسبقة. ولم تكن تلك التصريحات التي أطلقها بوتين في مؤتمر صحفي مشترك مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أمس الجمعة ، هي الأولى التي تكرس هذا السيناريو الذي بدا مقبولا على مضض من جانب الإدارة الأمريكية والشركاء الأوروبيين. فقد أكد أنه "توجد فكرة عقلانية وحيدة أيدها الجميع في قمة مجموعة الثماني التي عقدت هذا الأسبوع فى أيرلندا الشمالية" ، معتبرا أن الحل الوحيد هو مؤتمر سلام دولي لا يناقش مصير الأسد ، على إتبار أن مستقبل سوريا لا يجب أن يناقش خارجها . ولا يخفى على المراقب مدى التعنت الروسي الذي ظهر في كافة المحافل سواء داخل مجلس الأمن باستخدام الفيتو مدعوما بموقف صيني مؤيد للنظام السوري، أو رفض مجرد فكرة فرض منطقة حظر جوى على مناطق سورية ، أو حتى تأمين ممرات إنسانية لإغاثة وإنقاذ المدنيين. الضوء الأخضر إلا أن الموقف الروسي المتشدد لم يكن ليمر دون ضوء أخضر أمريكي، ربما لأسباب داخلية في غالبها اقتصادية، ناهيك عن محاولة الفكاك من عقدة التدخل في العراق للإطاحة بنظام صدام حسين، وهو الأمر الذي كلف واشنطن الكثير من المال والرجال والسمعة أيضا. ولم يشأ " سيد الكرملين " الساعي بقوة لتثبيت أقدامه كزعيم لأمة روسية قوية تحاول استعادة أمجادها الإمبراطورية، أن يظهر حجم مصالح بلاده في بقاء نظام بشار الأسد، وإنما تمكن من تغليف هذه المصالح بخطاب تعبوي ، يتوافق مع المزاج الدولي المذعور من نفوذ متصاعد لمسلحين متشددين يدينون بالولاء لتنظيم القاعدة. فقد تطوع الرجل ليقدم شرحا حول مخاطر احتمال حدوث فراغ سياسي في سوريا في حال اتخاذ بعض القرارات الآن بخصوص تغيير الحكومة، خاصة في حال الإصرار على رحيل بشار الأسد الذي سوف يؤدى من وجهة نظره لحدوث فراغ سياسي، سيملؤه ربما ما أسماه "المنظمات الإرهابية"، وهى الصفة التي تطلقها في الغالب روسياوإيران على المقاتلين من المعارضة. وتناسى بوتين تلك الجرائم التي يندى لها الجبين والتي اهتزت لها المشاعر الإنسانية في العالم ، بسبب عمليات القصف العشوائي، وأعمال العنف الانتقامية التي ارتكبها النظام السوري وأعوانه ضد شعبه الأعزل على مدى أكثر من عامين. وتكريسا لمبدأ وضع حد للربيع السوري الذي كاد أن يستنشق بعض نسمات الأمل بقرارات تسليح مقاتلي المعارضة، يحاول بوتين وضع حد لمساعي الرئيس الأمريكي باراك أوباما الرامية إلى تسليح معارضي الأسد، في الوقت الذي يدافع فيه عن إمدادات بلاده لحكومة سوريا بالسلاح قائلا " إنها قانونية تماما ". ويبدو أن إصرار الرئيس الأمريكى باراك أوباما على تعزيز صفات الانعزالية والانزواء والتراجع إلى الداخل الذي يتواكب مع التردد والخوف من التورط في أي صراع خارج حدود بلاده ، قد أغرى نظيره الروسي فلاديمير بوتين على الاستمرار في الإقدام والتحدي والإصرار والعناد وتكريس الحضور الروسي المخيف على الساحة الدولية كفاعل لا يمكن تجاوزه في القضايا المهمة. ولعل هذا الإقدام والرغبة في تكريس الحضور القوى هو ما حدا بالرئيس الروسي، أن يتجاوز كل الأطراف التي ترفض أو مازالت تتردد في القبول بعقد المؤتمر الدولي " جنيف 2" ، ويدعو إلى الضغط على كل الأطراف المتصارعة للجلوس على مائدة التفاوض ووقف العنف وإيجاد صيغ مقبولة للبناء المستقبلي لدولتهم وتوفير الأمن لكل الجماعات العرقية والدينية ، وفقا للسيناريو الذي أعده مسبقا وهو تكريس بقاء بشار الأسد. "لاءات أوباما" ولم يكن بوتين يحتاج لأكثر من "لاءات " الرئيس أوباما، التي أطلقها خلال مقابلة تلفزيونية، حتى يمضى قدما في فرض إرادة روسيا في الأزمة السورية، وهي "لا" لإغلاق المجال الجوي للطائرات الحربية السورية عبر القوة الجوية التي تستلزم مشاركة حلف شمال الأطلسي (ناتو) ، و"لا" إقامة لممر إنساني لإنقاذ مدنيين في مناطق تسيطر عليها المعارضة السورية ، و"لا" لدعم السنة في الصراع الدائر الذي دخل فيه الشيعة على الخط طائفيا سواء بعناصر من ميليشيا " حزب الله" أو المجموعات المسلحة الشيعية العراقية والإيرانية. حتى إمداد المعارضة السورية بالأسلحة المتطورة يلاقي "لا" من أوباما ، حيث أعلن رفضه في تصريحات منشورة قول معارضيه في الكونجرس ، إن تسليح المعارضة المعتدلة يغير مسار النزاع ويحبط خطط المعارضة المتطرفة. فيما أكد أوباما إن توفير الأسلحة المضادة للمروحيات أو الدبابات لن يغير مسار النزاع ومن يقول غير ذلك "لا يتسم بالواقعية في تحليل الوضع" ، وإن من يتحدث بلغة الحظر الجوي وممرات إنسانية يتحدث بلغة " الحلول المبسطة " . وليس ثمة شك في أن انتصار بوتين بفرض السيناريو القاتم الذي يحتل فيه الأسد واجهة المشهد ، منتصرا بالبقاء على " عرش الجماجم" التي ستظل تطارده ، سوف يمنح لهذا النظام الدموي مهلة لإلتقاط الأنفاس وارتكاب المزيد من الأخطاء القاتلة في حق بلاده وشعبه . إلا أن الربيع السوري الذي ارتوت أشجاره بدماء غزيرة ، لن يغادر بلاده رغم قسوة الموقف الروسي الداعم لبشار الأسد والذى كلله بيان قمة الثماني الباهت ،عندما ساوى بين القاتل والضحية ، خاصة بعد مجزرة القصير ، ونظيرتها المرتقبة فى حلب. فعلى الرغم من مؤشرات قمة الثماني العلنية، إلا أن هناك قرارات غير معلنة تؤكد عدم السماح بتكريس انتصارات قوات الأسد وأنصارها من إيران و"حزب الله" ،وبقاء إمكانية تحجيمها بدلاً من استمرار تصاعدها ،وهو ما جرت ترجمته عمليا فى إعلان هيئة الأركان فى الجيش السوري الحر تسلمها مجموعة من الأسلحة والذخائر كان قد طلبها رئيس الهيئة اللواء سليم إدريس بقوائم محددة من بعض الدول الداعمة للشعب السوري . كما أن تأكيدات رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون أنه " لا يمكن تخيّل سوريا يستمر فيها حكم الرجل الذي ارتكب مثل تلك الأشياء المريعة بحق شعبه " ، تؤشر إلى استمرار خلاف الدول الغربية مع روسيا في شأن استمرار بشار الأسد، وهو ما أعلنه قادة روس بأنهم ليسوا "في غرام مع الأسد" ، وليسوا متمسكين ببقائه هو في السلطة لكنهم متمسكون بالنظام. وسواء انتصر الرئيس الروسي على الدول الغربية وأمريكا ومن يساند الربيع السوري في نهاية المطاف ، أو نجحت تلك الدول في فرض إرادتها على المدى البعيد ، إلا أن مواقف بوتين المتصلبة والجريئة ، تؤكد محاولاته التي لن تتوقف لكسر شوكة الغرب وخاصة أمريكا ، واستعادة أمجاد الدب الروسي، حتى وإن عادت ملوثة بدماء الأبرياء .