توقفنا في الحلقة الثانية عند مقابلتي لضابط أمن الدولة في شربين وما دار بيني وبينه من حوار، وأنه في نهاية المقابلة بشرني بالتعيين، فعدت إلى بلقاس مستبشرا الخير، وانتظرت طويلا طويلا طويلا...، وفي فترة الانتظار تلك تزوجت من زوجتي الأولى عبير رحمها الله وأسكنها الفردوس الأعلى، وأنجبت ابنتي الكبرى رباب، وكنت في المراحل الأخيرة من رسالتي للماجستير (الرقيق في مصر في القرن التاسع عشر) فانتهيت من كتابتها، ومناقشتها، كل هذا وأنا في انتظار موافقة الأمن على التعيين، ولكن لا حس ولا خبر. وفي خلال تلك الفترة عملت في أشغال مختلفة، فعملت مساعد صيدلي في صيدلة الدقم ببلقاس لمدة عام تقريبا، ثم لما تزوجت عملت مدرسا للغة الإنجليزية بالحصة في مدرسة السبعة الإعدادية، وكنت أتقاضى مكافأة قدرها جنيها كاملا عن كل حصة، ثم لما حصلت على الماجستير سنة 1996 قررت عدم الانتظار أكثر من هذا، وكنت قد قرأت إعلانا في إحدى الصحف عن مدرسة في مصر الجديدة تطلب مدرسي تاريخ للمرحلة الثانوية، فقدمت أوراقي فيها، وقبلت، وكانت المفاجأة أن المدرسة (إسلامية)، وهي "مدرسة أبو زهرة الإسلامية" هكذا كان اسمها، أسستها جمعية الإمام محمد أبو زهرة الإسلامية، وكما تعلمون فإن مجرد وجود كلمة (إسلامية) في أي شيء كان يثير حساسية شديدة لدى أمن الدولة، والمتهم عند أمن الدولة مُدَان حتى تثبت براءته، بل هو مُدان حتى لو ثبتت براءته. المهم انتقلت أنا وزوجتي وابنتي ذات العشرة أشهر للإقامة في القاهرة، وانتظمت في العمل بالمدرسة، وسجلت رسالتي للدكتوراه في بنها تحت إشراف أستاذتي اللطيفة الدكتورة لطيفة سالم، بالاشتراك مع الرجل المحترم الدكتور حمادة إسماعيل، وبعد عامٍ كامل من عملي في تلك المدرسة، اتصل بي أخي محمد يقول لي: تعالى بسرعة، فقد وصل خطاب التعيين. يااااااه، أخيرًا وصل خطاب التعيين، طيب أنا الآن استقريت في القاهرة، واستأجرت شقة صغيرة على سطح منزل والد زوجتي المرحوم الحاج أحمد سليمان في شبرا الخيمة، وقطعت شوطا طيبا في الدكتوراه، واتسعت دائرة معارفي ونشاطي الأكاديمي، وزاد دخلي في المدرسة؛ لأنني أصبحت أعطي دروسا خصوصية لبعض الطلاب من المدرسة التي أعمل بها ومن خارجها، كما نشرت في ذلك الوقت رسالتي للماجستير، وحققت بعض المخطوطات بالاشتراك مع زميلي عبد الرازق عيسى؛ ولذلك كله قررت ألا أستلم العمل. وهكذا ضحيت بالوظيفة الميري، وفضّلت العمل في مدرسة خاصة، لأني كنت أعلم أن العمل في هذه المدرسة أو تلك ما هو إلا مرحلة مؤقتة، وكان عندي يقين من أن مصيري إلى العمل في الجامعة. لا أطيل عليكم ونعود لحكايتي مع أمن الدولة، فبعد عملٍ استمر في المدرسة الخاصة لنحو ثلاث سنوات قرأت إعلانا في إحدى الصحف عن طلب "المجلس الأعلى للشئون الإسلامية"وظيفة "باحث تحقيق مخطوطات"، وتقدمت بأوراقي، لأنه أقرب إلى تخصصي وعملي كباحث سبق له العمل في هذا المجال، وكانت لجنة المقابلة برئاسة المرحوم الدكتور عبد الصبور مرزوق أمين عام المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وكان من بين أعضائها الدكتور أيمن فؤاد سيد، وفزت بالوظيفة من بين أكثر من مئة مرشح. ولكن الفوز بالوظيفة لم يكن هو الأهم، فالأمر الأكثر أهمية كان هو الفوز بموافقة أمن الدولة على التعيين، وانتظرت وانتظرت.. وأخيرا جاءني مخبر أمن الدولة في شبرا البلد، وقال لي: أنني مطلوب في مكتب أمن الدولة، وأعطاني ورقة باسم الضابط الذي سأقابله وموعد المقابلة، وسألته عن مكان المكتب، فقال لي إنه في المؤسسة، على كورنيش النيل أمام كلية الزراعة، وبجوار نادي ضباط النقل، وكانت هذه أول مرة أنتبه إلى وجود مكتب أمن دولة في هذا المكان، بالرغم من أنني مررت على ذلك المبنى الذي يشبه القصر مئات المرات، وذهبت في الموعد الذي حددوه لي، وسألني الأمن على البوابة عن غرضي، فقلت لهم عندي موعد، فأدخلوني إلى الاستقبال، حيث سألني أمين الشرطة هناك عن ما أريد، فأعطيته الورقة التي سلمها لي المخبر، فطلب بطاقتي (كانت البطاقة العائلية القديمة) فأخذها وطلب مني الانتظار، وانتظرت في الاستقبال حتى يحين دوري، وجلست أتأمل في وجوه الضيوف أمثالي، منهم ذو اللحية، ومنهم الحليق، وأنا كنت في ذلك الوقت من ذوي اللحى، المهم بعد حوالي ساعة نادى على اسمي، فقمت، فأخذني جندي ودخل من البوابة الداخلية للمبنى وصعدنا إلى الطابق الثاني، وانتظرت في الطرقة حتى دخل الجندي إلى الضابط وخرج، ونظرت حولي فوجدت شبابا يقفون في الطرقة وعيونهم معصوبة ووجوههم للحائط، فأخذني الخوف، وتوقعت شرًا، يبدو أنني دخلت عرين الأسد بقدمي، ودعوت الله أن يثبتني وأن أخرج سليما. بعد حوالي دقيقتين خرج الجندي وناداني، فدخلت على الضابط الذي لا أذكر اسمه، فسلم علي ورحب بي، وطلب مني الجلوس، وسألني أسئلة كثيرة عن اهتماماتي ودراساتي وأبحاثي، وطموحاتي ونشاطي السياسي والديني، وسألني عن المساجد التي أصلي فيها، وعن مكان عملي وأشياء كثيرة، وأجبته بكل صدق، وبهدوء وسكينة أنزلهما الله عليّ، وأوضحت له أنني ليس لي أي نشاط سياسي، وأن الموضوع كله هو أنني كنت عضوا في اتحاد الطلاب بالكلية.. فقاطعني وقال أنا عارف كل حاجة وملفك وصل عندنا، إذن انتقل الملف من شربين إلى شبرا الخيمة، وكما نقول في المثل: من شربين لشبرا يا قلبي لا تحزن. استغرقت المقابلة حوالي نصف ساعة، وفي النهاية طمأنني وقال لي لا تقلق سوف تعين إن شاء الله. ولكن.... (للحديث بقية)