كلمة الثورة في المجمل الأعم تعبّر عن تغيير عميق يحدث في فترة زمنية محدودة. فالثورة إذاً- وبمنطوقها الحرفي- تتضمن اندفاعاً قوياً ومتسارعاً في اتجاه معين هو في الأغلب اتجاه جديد، مما يمثّل في حد ذاته "نوعاً آخر من التغيير". فمن البديهي إذاً أن تترافق الثورات مع تغيرات حادة قد تلحق (بعض) الأضرار بالنسيج الاجتماعي وبمكونات الدول ومؤسساتها المختلفة، سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية، أو حتى عسكرية في بعض الأحيان. وكثيراً ما يتساءل البعض عما ألحقته تلك الثورات من أضرارٍ بكيان الدولة وهيبتها ومقدراتها الاقتصادية والسياسية، وهي تساؤلات يرى أصحابها أن التكلفة العالية لهذا "الحراك الشعبي" كما يرونه لا ترقى إلى حجم التضحيات التي بذلت، وأن هناك قصوراً ما في رؤية المتحمسين لتغييرات حادة ، يرون هم أنها تأتي قبل الأوان، أو لربما كان العالم أفضل لو أنها لم تأت في الأساس. وهم في رؤيتهم تلك ينطلقون من الافتراضية القائلة بأن الدولة - وبمؤسساتها وأنظمتها الحالية- هي الضمانة الأكيدة لبقاء الوطن متماسكاً ومتواجداً على الخريطتين السياسية والاقتصادية. لذلك لم يكن مستغرباً أن يشير هؤلاء إلى الأوضاع الصعبة التي تمر بها دول الثورات العربية، وإلى النزيف اليومي لمقدراتها الاقتصادية، والتهديدات الأمنية التي تعصف بمدنها وقراها، والدمار الذي لحق بمؤسساتها العسكرية في خضمّ عراك يومي، هو أقرب للحرب الأهلية منه إلى مجرد "قلاقل وتظاهرات شعبية"، خاصة وأن إحدى تلك الدول انزلقت بالفعل إلى حرب كاملة لم تجد أطراف دولية فيها أية غضاضة في المشاركة بمجهود حربي وبدعم دولي، بغض النظر عن حجم التفويض وغموض الألفاظ السياسية التي أريد لها في الأساس أن تملك أكثر من تفسير. لكن السؤال الذي لا يزال يبحث عن إجابة مقنعة هو: هل أضرت تلك الثورات بدولها حقاً، أم أن تلك الثورات قد اندلعت لأن أضراراً قد لحقت بالفعل بتلك الدول، مما استدعى قيام تلك الثورات للحفاظ عليها؟ لقد قيل الكثير عن أسباب قيام تلك الثورات، أو"حالات الحراك الشعبي" كما يحلو للبعض القول بغية الحط من قدرها، وتعددت الأسباب المرصودة من اقتصادية تتعلق بالمعاناة اليومية وشظف العيش ،إلى اجتماعية تتعلق بالفوارق الحادة بين الطبقات والصراعات القبلية، إلى طائفية تستمد دوافعها من صراعات امتدت عبر القرون. ولم يجد البعض غضاضة في إقحام عنصر التدخل الأجنبي، بل وحتى إقحام التقنية الرقمية كعنصر أساسي في إخراج مئات الآلاف من منازلهم كي يركلوا بأقدامهم صور قادته، وكأن الناس كانوا في حاجة لمن ينبههم إلى مدى التعاسة والظلم المحيط بهم. وبالتأكيد، فإن معظم هذه الأسباب تصلح لأن تكون مبرراً في حد ذاتها لاندلاع ثورات الجماهير المثقلة بنواتج أخطاء الماضي (وبعضها قاسٍ لعدة عقود بالفعل!)، لكن هذه الأسباب- على أهميتها- هي بدورها عوارض لحالة أعمق وأخطر تمس جوهر الدولة ذاتها وعقدها الاجتماعي. فمتى قرر المواطن- أي مواطن- أن يخرج ليتحدى السلطات التي تحكمه، وأن يواجه بصدره العاري فوهات البنادق، فإنه من الجلي أنّ ضرراً هائلاً قد لحق بالعقد الاجتماعي الذي يحكم العلاقة بين هذا المواطن ودولته. هذا الضرر لا يتأتى فهمه إلا من خلال النظر وبعمق للعلاقة بين سلطة الحكم كطرف، والدولة أو الوطن كطرف آخر. وفي هذا السياق ينبغي أن نفرق بين الوطن كأرض وتاريخ وشعب، وبين الدولة ككيان سياسي وإطار قانوني ودستوري يفترض فيه أن يعبر عن طموحات الشعب وأن يرعى مصالحه. إن حالة "الذوبان" القسري للسلطة الحاكمة ورجالها مع كيانات الدولة ومؤسساتها، أدى إلى الإخلال بوضعية مؤسسات الدولة كحاضنة أساسية للوطن، وتحويلها إلى أدوات نفعية بأيد قلة من المتنفذين وجماعات المصالح وأصحاب النفوذ. وفي هذه البيئة عادة تزدهر أسباب الفساد وتنتشر أساليب خرق القانون على أكثر من صعيد. وفي مساحة محدودة من الزمن سيجد المواطن العادي أن الدولة بمؤسساتها المخترقة والمفسدة، قد تحولت إلى خصم ينازعه أسباب الحياة الكريمة وحقوقه السياسية والمدنية، لتتحول العلاقة بالتالي إلى عداوة مستحكمة يحاول كل طرف فيها إقصاء الآخر وشل قدراته. وبينما تسود السلطة الساحة بقوة الأجهزة الأمنية وتحالفات المصالح (الاقتصادية منها أو القبلية)، يتصاعد الغضب الشعبي إلى أن يبلغ نقطة اللاعودة، وتنفجر عندها ثورة كان من المحتم وقوعها طبقاً للمنطق البحت، وكان السؤال دوماً عن زمن حدوثها ليس إلا. فمنطق الأمور إذاً، أن تلك الدول كانت تعاني من اهتراءات شديدة وعميقة، حتى وقبل أن تعانق أقدارها المحتومة مع ثوراتها وبزمن طويل. ورغم أن أحداً لا ينكر الجراح التي لحقت بالقطاعات الاقتصادية والمدنية، إلا أن التركيز عليها يتغافل عن الضرر الأهم الذي لحق بالروح الوطنية قبل تلك الثورات بأمد بعيد وكان سبباً رئيسياً في اندلاعها. فالدولة التي غيبت لصالح أفراد بعينهم أصبحت تعاني من افتقاد الهيبة من جانب مواطنيها، ولم تعد تدافع عن مصالحهم أو شؤونهم، بل تحولت إلى مجرد سلطة حاكمة وقهرية في معظم الأحوال. ثم زاد الطين بلة، انتشار "حمى التوريث" بطول المنطقة وعرضها، مما جرح- وفي الصميم- شعور الكبرياء الوطني، خاصة لدى دول ذات ثقل حضاري وهي التي بذلت من الدماء والعرق ما خلدته كتب التاريخ، فكان من الصعب على أبنائها رؤية وطنهم وقد انتهى به المطاف إلى هذا المصير. لذلك كان من البديهي أن تنشأ حالة من الانفصام بين المواطن وسلطته، وأن يثور دفاعاً عن وطنه في مواجهة دولته، أو سلطته الحاكمة على وجه التحديد. ولو لم تكن تلك الدول مهترئة وضعيفة البنيان من الداخل، لما نشأت تلك العداوة المميتة بين مواطنيها وسلطاتها الأمنية والخدمية على حد سواء، ولما رفض أفراد الشعب أن يثقوا في وعود حكامهم ونوابهم، ولما افتقد البعض إلى قلة من ضمير تثنيه عن إعطاء الأوامر بقتل مواطنيه، ولما وجد جنود يفترض أنهم أقسموا يمين الولاء لله والوطن القدرة على إطلاق الرصاص في صدور إخوانهم أو ترويع عائلاتهم أو قصف منازلهم. ولو لم تكن تلك الدول تئن تحت وطأة دمار عقدها الوطني ، لما استعانت سلطاتها بمرتزقة من الخارج، ولما استغاثت شعوبها بأطراف من الخارج أيضاً. ويخطئ من يظن أن قوة الدولة تقاس بمداخلها الاقتصادية ومعدلات نموها فحسب. فالدولة لا تكون قوية إلا باصطفاف أبنائها من ورائها وإيمانهم بعدالتها الاجتماعية وأمانتها السياسية. وهي قوية ما دام أبناؤها يشعرون بالانتماء لها وأن بوسعهم أن يثقوا في قادتها وفي نظامها السياسي والاجتماعي. فالدولة تكون قوية ما دامت قادرة على احتواء كل أطياف مجتمعها وتحقيق العدالة بين أبنائها، عدالة لا تعترف بفوارق طبقية أو سياسات قبلية أو محاذير سياسية، بل بقوة قانون يفرض هيبة الدولة كحكم أصيل بين أفرادها مهما اختلفت مراكزهم، فتنصف المظلوم وتتصدى للظالم مهما علا شأنه. والدولة تكون قوية عندما تمنح الأمل لأفراد شعبها، عملاً لا قولاً، وأن تحقق العدالة الاجتماعية والتي في ظلها يمكن للغني أن يزداد غنى، وأن يجد الفقير أيضاً فرصته الكاملة للصعود والارتقاء بعمله وجهده. وبنظرة واحدة إلى منطقتنا العربية، فإنه يتبين لنا قطعاً أن أياً من دول المنطقة لا تنطبق عليها تلك التوصيفات السابق ذكرها. فتلك الدول أبعد ما تكون عن القوة الحقيقية ومعظمها مرشح لمواجهة هزات اجتماعية وسياسية، وقد تنزلق بدورها إلى أتون الثورات المستعر. أما تلك التي مرت بتجربة الثورة فإن أغلبها يرقد في غرف الإنعاش وكتاب ثورتها المفتوح فيه كلمات ما زالت تسطر ولم يجف مداد حبرها بعد، وما زال طريقها طويلاً لبناء نظامها السياسي وصيانة عقدها الاجتماعي أو بالأحرى تجديده. وبعضها الآخر لا يزال يعاني نزيفاً متواصلاً، فيما تتشبث سلطاتها الحاكمة بأوتار الحكم الباقية، تحلم يوماً في الاستيقاظ وقد اختفى الثائرون من الشوارع، أو حتى الشعب كله إذا ما لزم الأمر! فالثورات العربية إذاً لم تُضعف دولاً قوية بقدر ما كشفت عن ضعف البنية الداخلية للدول التي اندلعت فيها. وهي قد وضعت البنية الاجتماعية ومؤسسات الدولة تحت اختبار عنيف وقاسٍ. لذلك لم يكن مفاجئاً أن تنجح الثورات التي اندلعت في بلاد لها تاريخ مع المؤسسات - مثل مصر وتونس - في بلوغ أهدافها) أو بعضها إن شئت( في زمن قصير وبمساحة عنف متدنية، في حين مرت بمخاض عسير وعنف طاغ في دول قبلية مثل اليمن وليبيا. وإن كانت تلك الدول ترقد الآن جريحة في غرف الإنعاش، إلا أنها قد تفادت - في رأينا- مصيراً أكثر قتامة كان في انتظارها عند قارعة المستقبل القريب. فاندلاع الثورات وما صاحبه من هزات اجتماعية وسياسية، أعاد المسار التاريخي لتلك البلدان إلى وجهته الطبيعية، والأهم أنه أعاد بث الروح الوطنية في أجيال خالفت كل التوقعات التي رأت فيها لاعباً سلبياً، فإذا بها تنتزع مقود القيادة في أكثر الأوقات صعوبة. كما أن أحداً لا ينكر أن بعض هذه الثورات كانت سلمية تتلفح بالأمل في غدٍ أفضل، ولو تأخرت تلك الثورات لبضع سنوات لربما أصبحت ثورات يأسٍ وانتقام، ولربما كان التدمير الموغل لمؤسسات الدولة حينذاك سيفضي إلى نتيجة مخالفة تماماً لم نراه اليوم. على أية حال فإن التاريخ قد قال كلمته. ومن المهم أن يفهم الجميع في هذا السياق أن هناك حجماً هائلاً من العمل ينتظر كل من يعنيه أمر وطنه وقوته. وقد تكون الأضرار في الناحية الاقتصادية هي أكثر الأضرار وضوحاً، خاصة في تلك الدول التي احتكمت فيه ثوراتها إلى السلاح، ولذلك فقد كان من الطبيعي أن تسترعي الانتباه وتصبح محط أنظار الجميع من مؤيدين ومعارضين. ولكن في الوقت الذي يصرخ فيه الجميع في اتجاه تضميد جراح الاقتصاد ودفع العجلة السياسية من أجل دوران جديد، فإن على أصحاب البصائر والضمائر ألا يغفلوا عن جوهر القضية، وهي حتمية بناء الفرد والدولة من الداخل على أسس سليمة، وإعادة العلاقة بين المواطن والدولة إلى إطارها الطبيعي. لا أحد ينكر أن عجلة الاقتصاد هي الرئة التي تتنفس بها الدولة، لكنها لن تدور بأفراد ذابوا في مصالحهم الخاصة والضيقة، بل بأفراد تحركهم ضمائرهم للتضحية- ولو قليلاً- في سبيل أوطانهم. ومن المؤكد أن كل دولة من دول الثورات تلك تجابه وضعاً اقتصادياً متفرداً عن أوضاع شقيقاتها في المنطقة. فبعضها يمتلك اقتصاديات ضعيفة في الأساس بسبب شح الموارد، في حين تعاني الأخرى من اقتصاديات مهلهلة بالرغم من وفرة الموارد الطبيعية، وذلك بسبب سوء الإدارة والفساد والاستغلال من جانب الطبقة الحاكمة الآفل نجمها. لكنها جميعها تشترك في حقيقة واحدة وهي أن خلاصها أصبح في يد أبنائها وحدهم، وأن تضحياتهم مطلوبة أكثر من أي وقت مضى. لذلك فلا بديل عن العمل بجد على استعادة الإنسان العربي لكيانه الإنساني وارتباطه بوطنه وإعادة بناء العلاقة التي تربطه بدولته. على أن الأهم من ذلك هو أن يتم بناء الدولة لتصبح خير تعبير عن الوطن بمحتواه الإنساني والمجتمعي والثقافي، دولة ناهضة تحتضن أفرادها وتحترم تاريخها وتقدر مؤسساتها، دولة قوية لا تقف على أبواب أحد، ولا تحتاج إلى دخول غرف الإنعاش بين الحين والآخر.