.. "فما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة" ليس هناك اعتراض على مطالبة المجتمع الدولي بالاعتراف بقيام دولة فلسطينية مستقلة تمثل الفلسطينيين في الداخل الفلسطيني وفي الشتات، على أن لا يوضع توصيف لهذه الدولة يُنكر على أصحاب الأرض حقوقهم المشروعة في العودة لأراضيهم ومدنهم وقراهم التي اغتصبتها الصهاينة وأقاموا عليها الدولة العبرية عام 48، ويعملون الآن على قضم أكبر قدر من أراضي الضفة الغربية التي تحتلها إسرائيل ليضمونها إلى هذا الكيان الغريب. وتفعيل حق العودة التي نصت عليه الهيئة الأممية مراراً، لا يعني أن اليهود الذين يقيمون داخل ما يسمى بالخط الأخضر الذي رسموه والذي يعرف ب "إسرائيل"، سوف يُلقى بهم في البحر، كما يدعي الإعلام الصهيوني المضلل (كعادته)، إذا ما قامت هذه الدولة على النحو الذي يريده الفلسطينيون، وإنما هم مطالبون بالعودة لأوطانهم الأصلية التي جاءوا منها. ومن يعجز منهم عن العودة أو يريد البقاء في فلسطين، فبإمكانه أن يعيش في أمن وسلام داخل دولة فلسطينية تضم العرب واليهود والمسيحين، وتضمن للجميع (فلسطينيون ويهود ومسيحيون) تمثيلاً عادلاً في الدولة الجديدة. سوف يدعي اليهود، أن الدعاوي اللاهوتية تقضي بوجود دولة يهودية الطابع والهوية على أرض فلسطين، والتي وعد الرب بها لتكون وطناً قوميا لليهود. غير أن هذا الادعاء لا يُعتد به، لا تاريخياً ولا دينياً ولا حتى واقعياً، (باعتبار ما يمكن أن يحدث مستقبلاً)، إذا ما صمم الفلسطينيون على النضال من أجل تحرير فلسطين من البحر إلى النهر. فنتاج هذا الادعاء وأهدافه "العصرية" إذا جاز التعبير، لا يعدو عن كونه نتاج سياسة رديفة لأهداف الاستعمار الغربي بقديمة وحديثة في الهيمنة على فلسطين والمنطقة العربية بل والعالم الإسلامي، وترجمة صادقة لأهداف هذه السياسة. فتقاطع المصالح بين الاستعمار الغربي والصهيونية العالمية في هذه المنطقة أمر لا يطاله الجدل. تاريخياً : يدعي هؤلاء أن العرب لم يطئوا أرض فلسطين قبل دخول الإسلام إليها، بينما الوجود اليهودي فيها لم يكن قبل ألفي سنة قبل الميلاد على أبعد تقدير (وتحديداً سنة 1200 قبل الميلاد أو يزيد قليلاً) بحسب بعض المصادر. وليس من شك أن هذا الادعاء مضلل وخبيث، حيث يعتمد على دعاوى لاهوتية تم تحريفها على يد حاخامات اليهود القدامي حين صاغوا التلمود بدلاً من التوراة التي أنزلها الله على سيدنا موسى عليه السلام، ورددها أحبار اليهود الصهاينة ومنظريها المحدثين والمعاصرين الذين حرصوا على توافق أهداف الصهيونية مع أهداف الاستعمار الغربي في المنطقة. فالثابت أن قبيلة "يبوس" العربية التي جاءت ضمن الهجرات الكنعانية من شبه الجزيرة العربية لأرض الشام، هي أول من نزلت أرض فلسطين واستعمرتها منذ أكثر من أربعة آلاف سنة قبل الميلاد على أقل تقدير، ما يفسر استمرار تسميتها بأرض كنعان قبل أن يغزوها اليهود بقيادة النبي يوشع. اما استبدال هذا الاسم بفلسطين، فأغلب الظن أنه جرى- من بين أسباب أخرى محتملة- على يد اليهود الذين احتلوا الأرض المقدسة بعد ذلك الغزو، إمعاناً في محو أي دليل ولو لفظي يؤكد أن العرب هم أول من وطأ هذه الأرض واستعمرها. والمعروف أن اسم فلسطين مشتق من اسم قبائل "فاليستا" التي كانت تقطن جزيرة كريت، وغزت الساحل الفلسطيني واستوطنته. وقد قام صراع بين تلك القبائل وبين العرب أصحاب الأرض، انتهى بذوبان الغزاة من تلك القبائل بالسكان الأصليين والتعايش معهم. أما الإسرائيليون الذين يدعون وجودهم قبل العرب في فلسطين، والذين يروق لهم أن يسموا أنفسهم بالعبرانيين نسبة لعبور سيدنا إبراهيم عليه السلام النهر في أرض الرافدين باتجاه فلسطين ، فهذا لا يعطيهم الحق في الادعاء بأنهم الأحق بملكيتها لسببين: أولهما أن هذا العبور لم يكن- في الغالب- بهدف التواجد الدائم على أرض فلسطين، كما لا يعني أن لا أحد غيرهم كان يقطن هذه الأرض قبل قدومهم، وإنما كان عبوراً مؤقتاً بدليل أن الغالبية العظمى من أل يعقوب (الذي يدعى إسرائيل)، قد انتقلوا لمصر وأقاموا فيها (قصة سيدنا يوسف عليه السلام)، ولم يعودوا لأرض فلسطين إلا بعد أن أُنزِِل سيدنا موسى نبياً على بنى إسرائيل .. ويخلصهم من الظلم الذي كان يوقعه بهم فرعون مصر آنذاك، وكان ذلك بعد قرون طويلة من نزول قبائل يبوس الكنعانية أرض فلسطين واستعمارهم لها كما ذكرنا. دينياً ولاهوتيا : حقاً .. وعد الرب بعلو شأن اليهود مرتين ثم تذهب ريحهم. وقد حدث هذا أول مرة على يد نبوخذ نصر الذي أسر عشرات الآلاف منهم ونقلهم هم ونساءهم وأبناءهم للعراق، ثم عادوا لأرض فلسطين ثانية حيث علا شأنهم فيها مرة أخرى. غير أن ريحهم ما لبثت أن ذهبت مرة أخرى على يد الرومان الذين أعملوا فيهم القتل والتشريد، لدرجة أن رئيس الكنيسة في القدس- آنذاك- اشترط على المسلمين كي يسلمهم المدينة، (أن لا يسمحوا ليهودي واحد بالبقاء فيها). وهكذا لم تعد هذه الدعاوي اللاهوتية حجة على ملكية اليهود لأرض فلسطين. واقعياً: كان الفلسطينيون وما زالوا يتقدمون الأمتين العربية والإسلامية في مقارعة الوجود العبري على أرض فلسطين، برغم أنهم ليسوا وحدهم المسئولين عن المقدسات الموجودة فيها، وبرغم الخطر الأكبر الذي يهدد العرب ونعني به المشروع الصهيوني لإقامة إسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل. وقد امتد صراعهم مع اليهود الصهاينة لأكثر من مائة عام، قدموا خلالها تضحيات هائلة للحفاظ على ترابهم، وعلى المقدسات الإسلامية نيابة عن العرب والمسلمين. كما أنهم ما زالوا مصممين على التصدي للاحتلال الصهيوني، سواء في الضفة الغربيةالمحتلة أو داخل ما يسمى بالخط الأخضر، الذي يقوم الكيان العبري على أرضه منذ عام 48، وبرغم أن ما لديهم من أمكانات في هذا الصراع، لا يقاس بالإمكانات الضخمة التي تتوافر لإسرائيل، وبالدعم غير المحدود الذي يأتيهم من الغرب بصورة متواصلة. وعودة لطلب الرئيس عباس من المجتمع الدولي الاعتراف بإقامة دولة فلسطينية مستقلة تكون قادرة على الحياة والاستمرار، وتمتلك الحد الأدني من مقومات الدولة (وهي الأرض والبشر والإمكانات) .. نقول إن مطالب كهذه، أمر مرحب به من جميع الأطياف الفلسطينية ولا غبار عليه. أما أن يتضمن هذا الطلب (تصريحاً أو تلميحاً) حصر تلك الدولة في حدود عام 67، فهذا أمرٌ لا ينبغي لعباس أو غيره قبوله أو الاعتراف به، حتى لو تم الاتفاق على إزالة كل المستوطنات اليهودية التي زرعتها إسرائيل في الضفة الغربيةالمحتلة، ورفع الحصار عن قطاع غزه، وذلك لأسباب جوهرية لا يمكن للأجيال الفلسطينية والعربية القادمة أن تقبل بها. لأن القبول بذلك يعني إضفاء الشرعية على اغتصاب الصهاينة للأرض الفلسطينية. وهذا ما سوف نعرض له في الجزء الثاني من هذا الموضوع إن شاء الله. غير أن ذلك لا يمنعنا من الإشارة مسبقا إلى نقطة غاية في الأهمية، وهي احتمال أن تؤدي مطالبة الرئيس عباس (بالاعتراف بإقامة دولة فلسطينية على الأرض التي احتلتها إسرائيل عام 1967 وحصولها على عضوية كاملة في الهيئة الأممية)، إلى مجرد تحقيق هدف الأمريكيين والإسرائيليين في استئناف المفاوضات (التي غالبا ما ستكون عبثية كسابقاتها) بين عباس وإسرائيل، والتي يمكن أن تمتد لعقدين آخرين أو أكثر، دون أن يتنازل الصهاينة عن مخططهم لإقامة إسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل، والذي يعد احتلالهم لفلسطين بالكامل وتهجير أصحابها الأصليين، بمثابة المرحلة الأولى من هذا المخطط. وهذا ما أشار إليه (تصريحاً وتلميحاً) العديد من الزعماء والحكومات الإسرائيلية السابقة وبخاصة رئيس وزراء إسرائيل الأسبق "آرئيل شارون". إذن المطالبة بإعلان الدولة الفلسطينية المستقلة، يعتبر- في حد ذاته- مطلباً غائيا يجب على كل فلسطيني أن يسعى إليه. غير أن هذا يتطلب من القيادة الفلسطينية أن تكون على وعي بأنها لا تملك السيادة على الأرض التي يفترض أن تقوم عليها الدولة الفلسطينية بسبب الاحتلال الإسرائيلي، وأن تدرك أيضاً عجزها عن إجبار الصهاينة على الانسحاب من الضفة الغربية التي يفترض أن تقام عليها الدولة الموعودة، طالما أن خيار المقاومة المسلحة منبوذ من عباس وسلطته، وطالما أن المفاوضات طيلة عقدين من الزمن لم تأت بنتيجة، بل زادت الأمر تعقيداً حيث استغلتها إسرائيل في تكثيف استيطانها لأراضي الضفة وتهويد مدينة القدس وأمور أخرى كثيره لا يتسع المقام لذكرها. والسؤال الآن: ماذا سيفعل عباس وحكومته لو وافقت الهيئة الأممية، أو لم توافق على طلبه قيام دولة فلسطينية تتمتع بعضوية كاملة في الجمعية العامة للأمم المتحدة ؟؟. فمن المسلم به أن لكل من الحالتين التزاماتها.. فما هذه الالتزامات؟ .. وهل تستطيع الدولة الموعودة أن تفي بها، وبخاصة أنها تفقد للسيادة على الأرض، وندرة الإمكانات ، وهما من أهم مقومات قيام الدولة؟. * هذا ما سنحاول تناوله في المقال القادم إن شاء الله.