سبيل إبراهيم المانسترلي ويوسف بك تحولا إلى مقالب للقمامة النيران تهدد بإحراق أجمل مئذنة وقبتين في مساجد القاهرة مواطن: حتى في عصور الظلام لم يتعامل المصريون بهذا الشكل مع مصر كتب – سيد حامد لم يكن مخططا لهذا التحقيق الصحفي أن يخرج بهذا الشكل, وإنما كانت شبكة الإعلام العربية "محيط" تعتزم تقديم سلسلة من التحقيقات الميدانية عن "حكايات الشوارع", تجوب فيه شوارع القاهرة والمحافظات, وتحكي قصة البشر والمكان, وتجلو الغبار العالق بالحجارة, وتنير الأبصار, وتكشف عن أسرار الحياة الكامنة في شوارع مصر التاريخية, بعيدا عن أحاديث السياسة التي تخنق الأجواء. كان المفترض أن يكون شارع عبد المجيد اللبان هو نقطة البدء في تلك التحقيقات, بيد أن ما به إهمال, والمخاطر التي تتعرض لها الآثار الإسلامية فيه جعل التحقيق ينأي عن غرضه, ويعرض الحالة التي وصل إليها المصريون في تعاملها مع تاريخهم وآثارهم. في السطور التالية, ندق ناقوس الخطر لنتدارك الأمر, وندرأ الخطر, قبل أن يأتي وقت لا يفيد فيه التباكي على ما ضاع.. وما يضيع لا ترجعه حتى أنهار من الدموع.
ندلف إلي شارع اللبان من جوار قسم السيدة زينب. أول ما يقابلك من آثاره سبيل إبراهيم بك المانسترلي, والذي كان مشرفاً على المكاتبات السلطانية في عهد والي باشا حاكم مصر من قبل السلطان العثماني القابع في استانبول, وذلك خلال العقد الثاني من القرن الثامن عشر الميلادي. الحالة التي وصل إليها السبيل تسر العدو ولا ترضي المحب للآثار المصرية, فمظهره يدل على أن يد التطوير والعناية لم تمتد إليه منذ سنوات ليست بالقصيرة, فصار بلا صاحب, مجرد مكان للتخلص من القمامة, ومخلفات البناء. هكذا تعامل مصر "الحديثة"؛ مصر القرن الحادي والعشرين, ما تركته مصر الإسلامية في القرن الثامن عشر, وهكذا يفعل الأبناء بما تركه الآباء والأجداد. والمدهش أيضا أن السبيل ملاصق لمدرسة إعدادية, وكأننا نرسم للتلاميذ الطريق الذي سوف يسيروا مع الآثار التاريخية. والأسبلة بٌنيت في الأصل كعمل من أعمال الخير , ومنها كان يحصل الغرباء والفقراء على حاجتهم من الماء. المصادر التاريخية تشير إلى أن مصر لم تعرفها بشكل الحالي إلا في العصر المملوكي, فقبله كانت الآبار والصهاريج والأحواض تروي ظمأ العطشى. ويعد سبيل الناصر محمد بن قلاوون والموجود في شارع بين القصرين أقدم الأسبلة, ويرجع تاريخ إنشائه إلى عام 726 هجريا – 1326 ميلاديا. وأوقف لها سلاطين المماليك الأوقاف العديدة لضمان تدفق الماء إليها باستمرار. ومنها ما كان مخصصا ليروي عطش الحيوانات والطير في السماء. وينقل الكاتب جمال الغيطاني أن أحد الرحالة الأوروبيين علق في القرن الخامس عشر بعد أن رأي العدد الهائل من الأسبلة في القاهرة "إن ما نراه من الأسبلة الكثيرة في أي مدينة إسلامية دليل على سمو خلق أهل هذه المدينة". لكن الزمن كان يخبئ للأسبلة أمرا خفيا, فقد امتدت مواسير المياه إلى البيوت, فتقلص عددها من ثلاثة آلاف إلى ستين فقط, وجف مائها, والآن يعاملها بعض المصريين وكأنها قطع من الحجارة التي لا تنفع إلا التخلص من القمامة. لكي تتيقن من ذلك, عليك أن تطالع المصير الذي وصل إليه سبيل يوسف بك (أثر رقم 219) في شارع عبد المجيد اللبان, فالحالة التي عليها أسوأ مرات من سبيل المانسترلي. ورغم أثر كشافات الضوء المزروعة في رصيفه, والتي تنبئ بأن يد التطوير قد اقتربت منه يوما, إلا أنها سرعان ما ابتعدت عنه, فتحول إلى أكبر مقلب للقمامة في الشارع, يفرغ فيه سكان قلعة الكبش المجاورة مخلفاتهم, ثم ..ثم يحرقون فيها النار!. ويوسف بك هو أحد أمراء محمد بك أبو الدهب, والأخير كان سببا في فشل تجربة الاستقلال عن الدولة العثمانية أيام محمد بك الكبير. والسبيل مبني على الطراز العثماني, مبني مستقل بذاته, فبعد أن كانت الأسبلة المملوكية تلحق بمسجد أو تشغل جانبا منها, أصبحت الأسبلة العثمانية مستقلة, وحدة معمارية منفصلة. يقول المهندس محمد سعد – من سكان المنطقة: هذا هو الحال التي وصلنا إليها, أصبح المصريون يتعاملون مع بلادهم وكأنهم ليسوا بأصحابها, وهذا لم يحدث في أشد عصور مصر ظلاما, لم يحدث أبدا أن تعاملنا مع الآثار بمثل هذا الإهمال.. والإهمال لم يبدأ بعد الثورة؛ حتى لا نظلمها, وإنما هو يعود إلى سنوات طويلة مضت..سيارات القمامة تأتي لكن الزبالة سرعان ما تعود.. لا توجد صناديق للقمامة..ضع صندوقين فقط ثم حاسب الناس على ما يفعلوه. وأضاف سعد: رأيت ذات يوم من شرفة منزلي سائح يبدو من ملامحه أن هنديا أو باكستانيا, لما فرغ من شرب مشروب غازي, بحث عن صندوق للقمامة فلم يجد, فوضع الفارغ في الحقيبة التي يحملها على كتفه, رافضا أن يلقي بها على القمامة التي تتراكم الآن أتلال بجوار أسوار مسجد بن طولون.. أصل المشكلة في المحليات فلا أحد فيها يعمل..ولو كل شخص عمل وقام بواجبه لما قاسينا مما نعانيه الآن. لم ينته كلام المهندس سعد, وإنما ذهبنا سويا إلى مسجد أحمد بن طولون, حكي عن النظافة التي كانت تبدو عليها المنطقة, هنا كان يوجد سور حديدي أمني يمنع السيارات من المرور إلا سكان المنطقة, لم تكن هناك ورقة واحدة على الأرض, الآن تبدل الوضع, القمامة والأتربة في كل مكان, فهل يأتي السياح ليشاهدوا هذا المنظر؟!.. أنظر هذا الكوم من القمامة أمام مدخل بيت الكريتلية مباشرة!!. نعود إلى شارع عبد المجيد اللبان, المسجد الذي يأسر الأبصار هنا هو مسجد الجاولي, مئذنة بديعة المنظر, تبدو قريبة الشبة بمئذنة جامع الحاكم بأمر الله الفاطمي. وبجوار المئذنة تكتمل السيمفونية الموسيقية بقبتين تعود بك إلى زمن ألف ليلة وليلة. المسجد مبني على ربوة عالية, فعليك أن ترفع بصرك إجلالا وخشوعا لهذا الجمال. لا يوجد منفذ له من شارع اللبان, فالسور الحديدي يمتد على طول الجدار, ولافتة على بابه تقول في صرامة "الباب مغلق". صوت آذان الظهر يرتفع, فلنسرع سويا لنلحق بالصلاة, ولنحظى بدقائق في رحاب الجاولي قبل أن يتم إغلاقه مباشرة بعد الفروغ من أدائها. طبقا للبيانات التي يوفرها موقع الشئون الإسلامية فقد أنشأ هذا المسجد الأمير علم الدين سنجر الجاولي عام 703 هجريا – 1303 ميلاديا , وهذا الأمير كان في الأصل مملوكا لأحد أمراء الظاهر بيبرس, ثم انتقل بعد موت صاحبه إلى خدمة بيت قلاوون, إلى أن وصل إلى مرتبة الأمراء في أيام الناصر محمد بن قلاوون. وتضيف البيانات " تنحصر قيمة المسجد في وجهته فهي بالمنارة الجميلة والقبتين المتماثلتين المجاورتين لها تعتبر فريدة بين وجهات مساجد القاهرة".. ولكي نعرف سر تلك المعلومة علينا أن نذهب سريعا إلى المسجد, لنكتشف الوجه القبيح من الإهمال. الطريق إلى الجاولي يستدعي الصعود عبر سلالم حجرية إلى قلعة الكبش, وبعد الدخول في حواري ضيقة ملتفة وملتوية, نصل إليه أخيرا, الولوج إليه يستدعي الهبوط درجات, ثم السير في ممر, ثم الهبوط ثانيا. من الداخل يبدو مهيبا بجماله البسيط. لنسرع إلى الصلاة أولا, عدد الراكعين سبعة فقط.. ما أقل عبادك يا جاولي. بعد الصلاة ندرك لماذا قالوا أن قيمة المسجد في واجهته, فالمحراب الأصلي ضاع بسبب الإهمال, وكل حائط القبلة الحالي عبارة عن محارة حديثة, فالحائط القديم عاني طويلا من نشع المياه القادمة من حمام ملاصق له, فكان الحل أن مد الأهالي أيديهم, وقاموا باستخدام الأسمنت ومادة عازلة للمياه. يقول عم محمد سعد - من رواد المسجد: حينما جاء مسئولي الآثار وغضبوا لما فعله الأهالي, قلنا لهم: لم يكن لدينا خيار أخر لإنقاذ المسجد لما يعانيه من إهمال, فأنتم لا تهتموا به. البناء الحديث طال أيضا أحد أركان المسجد, فشريط الكتابة الكوفية الذي يحيط جدرانه يتساقط فجأة لتبدو أثار المحارة الحديثة. الكارثة الأكثر بشاعة كانت المكان المجاور للمسجد, سكان المنطقة قالوا أنه بيت قديم تهدم, فصار مقلب للقمامة, مقلب بارتفاع دورين, وكل فترة تشتعل فيه النيران, لمدة يوم أو يومين, ثم تأتي سيارات الإطفاء تحاول كبح النيران التي تشتعل تحت أقدام سنجر الجاولي وتهدده بالفناء. يقول خالد سويلم- من سكان المنطقة: وبعد أن تخمد النيران, تعود وتشتعل من جديد, فأكوام القمامة عميقة, و"عقب" سيجارة كاف لإعادة اشتعال النيران. "محيط" تقرع أجراس الإنذار لكي ننقذ آثار مصر قبل أن تضيع, آثارنا التي نجت من كل عصور الظلام والاستبداد, لتلقي حتفها الآن على أيدي المصريين الجدد, سواء كانوا مواطنين عاديين أصابتهم السلبية في روحهم أو مسئولين لا يغادرون مكاتبهم. وإذا كان المنطق المادي هو الذي يحكم العصر "الحديث", فقليل من الاهتمام والعناية, وكثير من الدعاية, سوف تأتي بأفواج السياج, ليصبوا العملة الصعبة في جيوب المواطنين المجاورين للآثار, وتمتلئ خزائن الدولة. فهل من مجيب؟.