يجلس وحيدا في غرفته بعنبر الحروق ، في مستشفى الحلمية العسكرى ، حالته لا تسمح بالزيارة غير ساعات محددة من يومى الخميس والجمعة ، غرفته خالية من المرايا حفاظا على حالته النفسية ، لكنه استطاع بعد شهر من رقدته في المستشفى ، ان يحصل على تليفونه المحمول ، وتحايل كى يلتقط صورة لنفسه ، ثم ينظر ليكتشف ، كيف صار حاله بعد الحادث ؟ يتذكر فتاة كان يحبها ، ويسأل ماذا سيكون إحساسها لو رأته الآن ؟
الآم الحرق في رأسه وجبهته ورقبته ، وآثار العمليات في ساقه ، تحرضه أحيانا على سؤال نفسه ، هل ما فعلته كان صحيحا ؟
عمله كضابط مباحث عوده طرح الأسئلة ، والبحث عن الحقيقة ، وتتبع التفاصيل حتى يصل الى الجاني ، وهاهو الآن ، يستجوب نفسه ولا يفكر في غير الإدلاء بمعلومات كاملة وأقوال صريحة عن يوم الحادث وملابساته وكيف تطورت الأحداث فيه ..
الاسم : ابراهيم السبيلى -26 سنة – ضابط مباحث برتبة نقيب
وقع الحادث يوم الاثنين ... وتحديدا في الخامسة مساء
كان وقت راحتى ، وكنت خارج قسم الشرطة ، فكرت ان اذهب لبيتى في قرية الابراهيمية ، لكنى فضلت اختصار الوقت والنوم في الاستراحة القريبة لعملى ، بقرية العباسة مركز ابو حماد – شرقية
اهل القرية طيبون ويحبونى انا ورئيس المباحث ، بسبب سنوات خدمتنا بينهم ، لذلك لم يتعرض قسم الشرطة الذى نعمل به لأى هجوم اثناء اوبعد الثورة ..
- ..............................................؟
- نعم انا متأكد ان حبهم لنا وثقتهم فينا سبب حمايتنا من اى اذى ،في وقت كانت الداخلية فيه تعيش اضعف حالتها ، خاصة الفترة التى انقطعت فيها الاتصالات بيننا وبين القيادات الكبيرة في الوزارة .
القيادة التى كانت تأمر وتنهى وتعنف وتغلق السماعة في وجه الضابط الصغير قبل ان يرد بكلمة ،صارت تخشى ان تصدر اى توجيهات حتى لا يحسب عليها موقف او تجد نفسها في موضع اتهام او محاكمة
الضابط الصغير مثلى ، اصبح يرجع لنفسه في اى قرار ، ومسؤوليته عن أفعاله شخصية ، فأن هو حمل السلاح الميرى وطارد مجرما ، صار متهما بالعنف وقتل المدنيين ، والإساءة لحقوق الإنسان ، وربما يتظاهر الناس ويحبس لتهدأة الرأى العام او يصدرون ضده قرارا ايقاف عن العمل ويضيع مستقبله
أصدقاء وزملاء كثيرون لى في الشرطة محبوسين الآن ولن تظهر براءتهم قبل عام او اكثر من يعلم (؟)
صار الاوفق في هذه المرحلة الا نتحرك من مواقعنا ولا نغادر محل الخدمة ، ايا كان الامر جلل ..وربما الاوفق ايضا ان نفكر بطريقة الموظفين (اشتغل تغلط تتحاسب .. ما تشتغلش ماتغلطش ما حدش يمسك عليك حاجة) !
القيادات تقول لنا ( عاملوا الناس كويس ) ولا يحددون ما هى حدود (الكويس ) التى يقصدونها بالضبط ؟
- امعن التفكير في سنوات خدمتى الماضية وببساطة اعترف لنفسي انى أحيانا كنت أخالف القانون ،بل وخالفته متعمدا :
ذات يوم جاءت لى ام تبكى وتوسلت لى ان اجد لها ابنها الذى اختفى فجأة ، وليس له اثر في القرية كلها منذ اكثر من 10 ساعات
قمت معها وذهبت اتحرى عن ابنها البالغ من العمر 9 سنوات، خاصة بين الاطفال الذين كانوا معه قبل اختفائه ، وفق القانون لا يجب اتخاذ اى اجراءات رسمية قبل ان ينقضى على غياب الشخص المبلغ عنه 48 ساعة ، لكنى لم اكترث لمخالفة القانون ، لأنى لا استطيع ان اقول لأم جاءت تستنجد بى ، عودى من حيث اتيتى وبعد يومين ابقى تعالى اعمل لك محضر
مشيت جديا في القضية من الساعة الاولى لمعرفتى بقصة الطفل المختفى ، وبعد 10 ايام توصلنا لجثة الطفل ، واكتشفنا انه قتل ودفن على يد ابن عم له ،اعتدى عليه ثم قتله ،انتقاما لخلاف عائلى قديم ، وبعد تشريح الجثة واعادة دفن الطفل لدى عائلته ، ذهبت ورئيسى في المباحث لحضور العزاء ، وفوجئنا بالاب والأم يبديان لنا امتنانا شديدا برغم موت ابنهما المفجع
فقط لأنهما احسا اننا قمنا بواجبنا ،ومن اللحظة الاولى تعاملنا بأهتمام ، الام قالت لى : كفاية انك عرفت مكان ابنى وبردت نارى ..
والاب زارنى في المستشفى بعدما علم بالحادث الذى تعرضت له وما زال يطمئن عليا حتى الان بمكالمات التليفون !
الاطباء هنا يقولون لى ان شفاء الحروق بالذات يعتمد بشكل كبير على ارتفاع الروح المعنوية ، والزيارات والسؤال هى افضل علاج لحالتى النفسية .
-...........................................؟
- حب الناس كنز كبير ، يؤنس الوحدة ويلهم الصبر ويكفى انه يجعلنى افكر فيما فعلته يومها دون ان اشعر بالندم ..
- يوم الحادث وانا في الاستراحة نائم ، افقت على صياح الناس التى اتت تصرخ وتنادى كى احضر لنجدتها سريعا بالعساكر والسلاح .
احد البلطجية المشهورين في القرية باسم ياسر ابو حمدى ، هرب من السجن ، ونزل يسطو على البيوت والبهائم ويطلق النار على الاهالى ، وقتل اكثر من 8 أشخاص بينهم طفل ، ولا احد قادر على مواجهته او إيقافه ، فجاءوا يستغيثون بالشرطة ..
ساعتها جلست في مكانى دقائق لا اتحرك ، في الحقيقة ترددت ، وتساءلت بينى وبين نفسى ،لو واجهت البلطجية واطلقت النار او قتلت احد ، ماذا سيكون مصيرى ؟ قبل الثورة كنت اخطر القيادة واتوجه لمكان الحادث دون تفكير ، الان لن اتصل باحد لأن احدا لن يرد ، ولو نزلت مع الناس ثم صارت في الأمور أمور ، لن يدافع عنى احد ..
قبل الثورة ما كان احد فينا يفكر في الخطر او حتى في الموت ، الان كلنا نخاف .. قبل الثورة حزنت على العسكرى الذى توفى في مهمة اقتحام معى ، لكنه لم يجعلنى اشعر بالأسف على مصيره ، لأنه مات بشرف ، والناس كلها كرمته وترحمت عليه وقالت انه مع الشهداء في الجنة ، الان لو قتل واحد فينا ، لن يذكره احد بخير ، ولن يدافع عنه احد ، وبعض الناس يقولون ( أحسن يستاهل .. عشان يحرم )! !
تحدثت لنفسى عدة دقائق قبل ان اترك مكانى ، لكنى تذكرت فجأة ان بين القتلى طفل صغير ، و عز على نفسى ان الناس اتوا بأمل و(عشم ) ان احميهم ، فأردهم خائبين ، لم تمض دقائق اخرى حتى خرجت اليهم وجمعت العساكر والمساعدين من القسم ونزلنا للقرية مسلحين ، نتعقب الحرائق التى أشعلها البلطجية على اسطح البيوت وصولا لبيت ابو ياسر ، الهارب من حكم بالسجن 5 سنوات في قضية تزييف عملة ، تبادلت معه اطلاق النار حتى نفذت ذخيرته ، فدخلت بيته وتعقبته الى السطوح ، لكنى لم اكد اصل اليه ، حتى القى فوقى زجاجة ( مية نار ) !
في البداية شعرت بسخونة شديدة فوق راسى وكنت اظنها ماء غسيل مغلى ، فواصلت العدو خلفه حتى قبضت عليه وما ان خرجت به من البيت مقيدا ، حتى بدأت اشعر بحرقان شديد في راسى ورقبتى و ارى ملابسى فوق ذراعى تتآكل امام عينى ، كان بين الاهالى طبيبا صيدليا ، ادرك من اللحظة الاولى انى احترق بماء النار ، فجذبنى ، بسرعة ، ووضعنى تحت حنفية ماء كبيرة ، وكنت قد بدأت افقد الوعى ، وعرف الاهالى ما جرى لى فهجموا على البلطجى وضربوه حتى الموت
افقت بعدها بايام في المستشفى ، ومن يومها اجريت عدة عمليات لترقيع الجلد ، ونقله من ساقى لمناطق اخرى في راسى ورقبتى
مدير المستشفى حين علم بقصتى ورآنى بكى ، واقسم على ان يحضر لى الطعام يوميا من بيته ، وصاريسأل ويتحدث عنى كأنى ابنه ، ، ووالدى اتى من البلد بعد الحادث و سألنى بعتاب : لماذا نزلت يا بنى هذه الايام ، لم يكن احد سيلومك او يحاسبك ، لو لم تذهب مع الناس (؟)
بعض زملائى غاضبون لأنى على حد اعتقادهم
( ضيعت نفسى ) بلا مقابل ، ولا تقدير ،وحين سقط ، لم يكتب عنى احدا سطر في جورنال ، لكنى غير نادم ، لأنى اشعر انى فعلت الشئ الصحيح ..
والدى ابتسم واقتنع حين رأى عمدة البلد ومدير امن الشرقية وعشرات الناس تسأل عنى وتنتظر موعد الزيارة كل اسبوع ، لترانى ، والمرضى والزوار في الغرف المجاورة بعدما عرفوا بقصتى صاروا يتحدثون معى عن الشرطة ودورها ، البعض يبدى تعاطفا ، والبعض يهاجم و البعض يسأل متى ستعود كما كانت في السابق ؟
•الايام في المستشفى طويلة .. طويلة جدا ، وقد امضى ابراهيم السبيلى فوق فراشه شهورا متوالية ، لا تفارقه ابتسامة واسعة فوق وجهه ولا يفارقه الالم ايضا ..
ترى كم عدد من زاره او سأل عنه او ارسل اليه وردة ؟
من يذهب لزيارة ابراهيم ومن مثله ، أو يهتم لسماع قصصهم الواقعية التى تحدث و تتكرر في أنحاء شوارع وقرى ومحافظات مصر كل يوم .. من يسأل عنهم او يسأل عما يفكرون فيه الآن ، سيعرف الإجابة على الأسئلة الأصعب : متى ستزول الكراهية وتعود الشرطة قوية ؟ متى ستكون في خدمة الشعب ؟و متى سيعود الى مصر الامان ؟