هناك من يفصل بين "صنع البدائل" و "التصويت للاختيار": الديمقراطية تقوم على شقين؛ شق آليات صنع البدائل بعدالة ومساواة، ثم شق الاختيار بين هذه البدائل من قبل الناس؛ وإذا لم يتفق المجتمع على توفير آليات صنع البدائل السياسية بموضوعية وعدالة؛ يصبح ذلك هو عين الاستبداد، حينما تتحكم سلطة ما فى البدائل التى تعرض على الناس، يعد ذلك "استبدادا من المنبع" وفرضا لبدائل محدودة على الناس لتختار بينها؛ وهو ما أسميه "ديمقراطية الدكتاتورية": فرض وإجبار الناس للتصويت على بدائل سياسية محدودة. ديمقراطية ما قبل الصندوق هى الأهم فى دولة المؤسسات والعدالة والحق؛ تلك التى تقوم على وضوح آليات صنع البدائل السياسية؛ إذا تدخلت قوة مسيطرة متسلطة معينة فى عملية صنع البدائل السياسية، يكون أهم شروط التصويت والاختيار الحر بين بدائل سياسية متساوية الفرص قد ضاع! ويتعرض المجتمع لعملية تنميط واستبداد مستتر ومقنع! حيث يتم سد الطريق أمام أنماط قيمية وسياسية متمردة بعينها، وفتحها أمام أنماط سياسية وقيمية متكيفة أخرى، تحظى برضاء القوة المتسلطة، وتنفذ أهدافها بادعاء المرحلية والتدرج فى التغيير وصولا للأفضل!
مرت مصر بخمس ممارسات تصويتية منذ انطلاق الثورة: استفتاء الإعلان الدستوري، انتخابات مجلس الشعب، انتخابات مجلس الشورى، انتخابات الرئاسة، استفتاء الدستور. والجذر السياسي التى تفرعت منه معظم فروع شجرة العملية السياسية فى مصر حتى الآن؛ يعود لاستفتاء الإعلان الدستوري مارس 2011! كانت القوة المتسلطة هى: المجلس العسكري، وأمامه أحزاب سياسية هشة وجماعة الإخوان المنظمة؛ لم تجد الأحزاب السياسية الضعيفة ما تستطيع أن تفاوض به المجلس العسكري، فاستخدمت تكتيك المزايدة والشعارات الرنانة لتحافظ على بقائها محتمية بالثوار، ووجد المجلس العسكري فى جماعة الإخوان الفصيل القوى؛ فتفاوض معه للوصول لإطار سياسي يحقق أهداف المجلس، ويغوى الجماعة بالحضور السياسي وبريق السلطة وتمرير شعاراتها الفكرية؛ وتلك كانت لحظة إنتاج "الاستبداد من المنبع" فى مصر الثورة!
تم تفصيل أول إجراء تصويتي ليجبر الناس على اختيار من اثنين: نعم أو لا! ولكنه لم يعطهم بديل إنشاء دستور جديد، والتخلص الكامل من النظام القديم! لم يعطهم حق "الاختيار من متعدد" حيث تم التأسيس فى مصر الثورة للفصل بين شقي الديمقراطية: "صنع البدائل" بعدالة، ثم "التصويت للاختيار" بينها بنزاهة..
أما فى انتخابات مجلس الشعب؛ فتم استقطاب بعض القوى الحزبية الضعيفة للترشح على قائمة الإخوان، وتم استقطاب بعض شباب الثوار للترشح على قائمة بعض الأحزاب الجديدة، وتم فتح الطريق لبعض الفرق الدينية المرضى عنها من المجلس العسكري (القوة المتسلطة حتى حينه) للترشح؛ ولكن الملاحظ هنا أن الثوار ككتلة لم يتم إعطائهم الفرصة ليكونوا بديلا سياسيا أمام الناس، ليختاروه من بين متعدد فى العملية التصويتية! ذلك لأن الشباب يكسر معادلة ومنظومة التكيف التى تقدمها القوة المسيطرة (المجلس العسكري).
واستمر الأمر كذلك فى انتخابات الشورى، إنما تزايد دور القوة المتكيفة (الإخوان وفرق الدين السياسي) مع القوة المسيطرة (المجلس العسكري والنظام القديم)، وتراجع دور الأحزاب السياسية الضعيفة حيث لم يعد لها فائدة عند الإخوان التى تحالفت معهم من قبل، كما أصبحت هذه الأحزاب موضع هجوم مستمر من الثوار لانتهازيتها، وكذلك كان الثوار عازفون عن المشاركة مشغولون بالدفاع عن جذوة ثورتهم من الانطفاء فى أحداث مجلس الوزراء، لتستمر سياسية "تقييد البدائل السياسية" المطروحة للتصويت أمام المصريين الذين كان أملهم فى الثورة كبيرا وأخذ يضعف!
وفى انتخابات الرئاسة، ضغطت القوة المسيطرة(المجلس) على القوة المتحالفة معها (الإخوان) لتمرير أهدافها، حيث أن الإطار السياسي للتفاوض بينهما يقوم على ثلاث نقاط: استقلال وحصانة المؤسسة العسكرية ومصالحها من أن تطالها يد الثورة والثوار، الانتصار لشعارات الإخوان السياسية فى وضع الدستور وتواجدهم فى المجلسين النيابيين بالأغلبية، وأخير كان البند المشكل: الملف الرئاسي حيث كان من المفترض أن يكون الرئيس توافقيا يحافظ على أهداف القوة المسيطرة والقوة المتحالفة معها! هنا حدث الاختلاف والشقاق بين المجلس العسكري والإخوان!
وجدت الجماعة أن هناك فرصة للانتصار السياسي بشكل أكبر، فى ظل غياب البدائل المقنعة أمام الناس، حيث فشلت الأحزاب فى تقديم بديل يجمع عليه الناس فى التصويت، وفشلت محاولات الثوار فى تقديم بديل يجمع بين حمدين وأبوالفتوح معا فى المقعد الرئاسى، حيث كانت وجهة نظر الثوار تقوم على: الاستفادة من خبرات حمدين السياسية المتراكمة، ومن تمرد أبوالفتوح ومحاولته تقديم نموذج قيمي مغاير! لكن الصورة الختامية أدت لانحصار البدائل أمام الناس مرة أخرى، بين مرشح القوة المسيطرة (أحمد شفيق)، ومرشح القوى المتحالفة معها ( محمد مرسى)، لينجح الرئيس مرسى.
وفى الاستفتاء على الدستور، تمسكت المؤسسة العسكرية (بعد انتهاء دور المجلس العسكري) بحصانتها واستقلالها فى الدستور، وحاولت الأحزاب الضعيفة أن تفرض وجهة نظرها لتقديم دستور متوازن نوعا لا ينتصر لفصيل ضد الآخر، لكن الإخوان وفصائل الدين السياسي لم يروا للأحزاب مواطن قوة تجعلهم يحترمون رغبتهم، من ثم حاولوا تمرير دستور - على هواهم السياسي - تواكب مع ذكرى أحداث محمود، لينتفض الثوار رافضين عملية الانتقال السياسي لأنها تقوم على التمكين لفصيل سياسي دون تطهير حقيقي للبلاد، فشعروا أنهم أمام استبدال لاستبداد قديم باستبداد جديد؛ وأوصلنا الاحتجاج لأحداث الاتحادية، التى انتهت أيضا بفرض بديل سياسي محدود أمام الناس، إما قبول أو رفض دستور فصائل الدين السياسي والإخوان! استمرت نفس آلية الاستبداد من المنبع، والسيطرة على الاختيارات المعروضة أمام الناس.
الثوار ليسوا طلاب سلطة، وليسوا فى صف الأحزاب أو فصائل الدين السياسي والإخوان، ولكنهم طلاب قيم وعدالة وأخلاق ومبادئ، الفطرة السليمة أن الناس تتحرك ناحية الأفضل والأصوب دائما، لماذا لا نحقق شروط وجود المجتمع الفعال والإيجابي! لماذا لا تكون بيننا كلمة سواء، حتى يكون تصويت الناس على بدائل واضحة متساوية! يجب أن نتفق على أن تكون المرحلة الانتقالية هى مرحلة بناء الدولة ومؤسساتها، وليس بناء تيار سياسي والانتصار له! الثورة لم تقم كي نجرى تصويتا أجوف على من سيقود القطار الخرب! إنما هى قامت لإيقاف القطار وإصلاحه، ثم فى مرحلة تالية يقترع الجميع على من يقوده! القطار الخرب لو وضعنا عليه شعار الدين - أو أي شعار آخر- لظل خربا، ولشوهنا الدين وحملنا الإثم! لابد من إصلاح القطار من قبل الجميع! محاولات الإقصاء قد تجعل القطار الخرب.. ينقلب بالجميع.
الآراء المنشورة في الموقع تعبر عن توجهات وآراء أصحابها فقط ، و لا تعبر بالضرورة عن الموقع أو القائمين عليه