ما كان يخشاه المصريون حدث وبات حقيقة، بعد أن عاد من جديد جهاز أمن الدولة وفي فترة زمنية قصيرة من قيام ثورة يناير العظيمة، عاد أكثر عنفاً وأشد بطشاً وترهيباً. أدرك المصريون أخيراً أن التغيرات التي طالت هذا الجهاز عقب ثورة يناير لم تكن إلا تغيرات سطحية وشكلية، فقط تغير اسم الجهاز من "أمن الدولة" إلى "الجهاز الوطني"، ولكن ظلت القيادات والعناصر النشطة التابعة للنظام السابق تعمل في مناصبها بنفس طريقة وأسلوب عمل جهاز أمن الدولة السابق، بل والأخطر استحداث هذه العناصر مليشيات مسلحة بغرض الانتقام من النشطاء السياسيين الذين يصرون على ضرورة تحقيق كل مطالب الثورة وأهمها القضاء على كل بقايا نظام مبارك. يذكر أن جهاز الأمن الوطني أنشئ بعد ثورة 25 يناير ليكون بديلاً لجهاز أمن الدولة المنحل، والذي عرف بسمعته السيئة لدى الشعب المصري. ويرى مراقبون أن ممارسات ذلك الجهاز كانت أحد الأسباب القوية في تفجر انتفاضة الشباب التي أطاحت بالرئيس السابق حسني مبارك من الحكم. وقد أثبتت حالات الخطف والاعتقال الجبري والقسري، فضلا عن حالات الترهيب والتنكيل بنشطاء سياسيين، أثبتت أن أذناب النظام السابق لا تزال تتحكم وتسير الأمور في الجهاز الوطني الجديد. حالات سحل وتنكيل بالناشطين السياسيين عديدة كان أخرها تعرض الدكتور أحمد أبو بركة المستشار القانوني لحزب الحرية والعدالة إلي اعتداء وسحل بالقرب من وزارة الداخلية وسط القاهرة، من قبل عدد من الأشخاص المجهولين الذين كانوا يستقلون سيارة خاصة. وكان الدكتور محمد البلتاجي أمين عام حزب الحرية والعدالة بالقاهرة قد تعرض لحادثة سرقة سيارته بالقليوبية، كما تعرض الناشط السياسي الدكتور عمرو حمزاوي والفنانة بسمة لسرقة بالإكراه ومحاولة اختطاف أثناء تواجدهما بمنطقة الشيخ زايد. أما عن حالات التضييق على الحريات فحدث ولا حرج، حيث لا يزال جهاز أمن الدولة في ثوبه الجديد يضيق الخناق على شخصيات وقوى سياسية ويحد من تحركاتهم ونشطاتهم، والحالات هنا كثيرة نرصد بعضها فيما يلي: منعت الأجهزة الأمنية بمحافظة القاهرة إقامة سحور لأعضاء الحزب الوسط بميدان المطرية. وقال عصام سلطان نائب الحزب إن العميد ربيع الصاوى مأمور قسم المطرية رفض السماح بتنظيم سحور جماعي لأعضاء حزب الوسط بميدان المطرية، وأنه حذر الدكتور عمرو عادل المنسق العام للحزب بالمطرية من الاعتقال تحت زعم عدم استخراج تصريح. وأشار سلطان إلى أن ذلك العمل يعد انعكاساً لعودة الأمن إلى وضعه الأصلي أيام ما قبل الثورة من التدخل في منع الفعاليات السياسية في الشوارع. استنكر عدد من المواطنين في عده محافظات تدخل الأمن الوطني على حد قولهم في اختيار المعتكفين بالمساجد خلال العشرة الأواخر من رمضان، وقالوا إن القائمين على المساجد طالبوهم بملء استمارات وتسليم صورة من البطاقة الشخصية حتى يسمح لهم بالاعتكاف. في المنيا اتهمت جماعة الإخوان المسلمين، جهاز الأمن الوطني بأنه ينتهج نفس أساليب مباحث أمن الدولة المنحل، وأكدت الجماعة على لسان الناطق الرسمي باسمها حسين سلطان، أن الجهاز يتعقب النشاطات الإسلامية خاصة نشاط جماعة الإخوان المسلمين، مشيرا إلى أن هناك مطاردة لعناصر الجماعة تتمثل في متابعتهم وتحذير أئمة المساجد في المنيا خاصة في مركز سمالوط من فتح المساجد أمامهم وإبلاغ الجهاز بأي تحركات لهم. وأضاف سلطان، أن عددا من ضباط الجهاز السابقين في المنيا قد بدأوا في تضييق الخناق على نشاطات الجماعة والدفع بعدد من المخبرين الذين كانوا يعملون في أمن الدولة في جميع مراكز المنيا التسعة للعودة العمل. هذا فضلا عن حالات خطف واختفاء عديدة تعرض لها نشطاء سياسيون، دون معرفة الجهة التي اختطفتهم وما هي تهمتهم. الخطير في الأمر أن مسئولي النظام السابق في الجهاز الجديد شرعوا في استحداث أدوات ترهيب أكثر عنفاً وأشد بطشاً، منها تكوين "مليشيات مسلحة"، بهدف ترهيب المعارضين السياسيين على الساحة، بل وذهبت تقديرات إلى تجهيز سيناريوهات لعمليات اغتيال وقتل لنشطاء وشخصيات عامة في الفترة المقبلة. وعقب تدشين جهاز الأمن الوطني ليكون بديلاً عن جهاز أمن الدولة المنحل، أبدى مراقبون مخاوفهم من أن يكون هذا التعديل مجرد تعديل شكلي فقط لامتصاص غضب الشعب المصري، كما أشارت إلى ذلك إحدى الوثائق المسربة من أمن الدولة المنحل، حيث تقترح الوثيقة المحررة للعرض على رئيس جهاز أمن الدولة، البدء في حل جهاز أمن الدولة بشكل صوري وإعلامي، والإعلان بأن ذلك يأتي في إطار تغييره والسعي نحو امتصاص الدعاوي المناهضة في هذا الشأن. وجاء في هذه الوثيقة أيضًا اقتراح بتغيير اسم جهاز أمن الدولة إلى جهاز الأمن الداخلي أو جهاز المعلومات الأمنية أو جهاز الأمن الوطني، أو اسم آخر حسبما جاء في الوثيقة. ويرى عدد من الخبراء أن استحداث جهاز "الأمن الوطني" ما هو إلا محاولة من وزارة الداخلية للتحايل على الشعب وإعادة أمن الدولة من جديد. وأكد الخبراء أن "الأمن الوطني" سيتحول بعد عامين لنسخة من جهاز أمن الدولة سيئ السمعة. وقال الخبير الأمني والضابط السابق محمود قطري في حوار مع الوفد إن وزارة الداخلية تسعي للالتفاف علي الثورة والتآمر عليها، للسيطرة علي الأوضاع والوطن والشعب كما كان الحال سابقا. وشدد علي أن ولاءات قيادات الوزارة السابقة مازالت تمنعها من التفكير بشكل جديد والتحرر من أفكارها القديمة. وحذر "قطري" من تحول القطاع بعد عامين لنسخة كربونية من جهاز أمن الدولة ، ولجوئه للتجسس علي الأحزاب والمعارضة والإسلاميين باعتبار النشاط الديني جزءا من الإرهاب الذي يختص القطاع بمكافحته، مشيرا إلي أن جهاز أمن الدولة نفسه لو استمر بثوبه القديم كان سيتوقف عن العمل بالطريقة القديمة لمدة عامين، حتى تهدأ الأوضاع فيعاود عمله بطريقته المعروفة. ومن هنا يرى عدد من الخبراء والنشطاء السياسيين ضرورة إلغاء جهاز "الأمن الوطني" نهائيا باعتباره الثوب الجديد لجهاز أمن الدولة،. ويشدد الدكتور أحمد أبو بركة المستشار القانوني لحزب الحرية والعدالة على ضرورة نسف هذا الجهاز"فالدكتاتوريات المتخصصة هي التي تتعدد فيها الأجهزة الأمنية بهدف واحد مع اختلاف مسمياتها، فتعصف بالحريات وتضيق علي الحقوق العامة للمواطنين". ويطالب أبو بركه بإعادة هيكلة الجهاز لتنقسم لجزأين مثل باقي دول العالم، إدارة مدنية مسئولة عن تسيير أعمال المواطنين المتعلقة بالوزارة، علي أن يكون العنصر الأمني داخلها عنصر - فني - فقط، وإدارة شرطية تتعلق بتنفيذ القانون كالشرطة الجنائية مثلا، تخضع للإشراف القضائي. ** القسم السياسي بموقع محيط