انتقلت إسرائيل، في العام 1974، وفق مؤامرة مع الولاياتالمتحدةالأمريكية على العالم العربى، إلى تدبير استراتيجي جديد في الصراع العربي -الإسرائيلي، بوقف العمليات العسكرية على الجبهة المصرية، وإخراج مصر من معادلة الصراع العسكري وإدخالها إلى مربع التسوية، مع تواصل الجهود اللازمة لإنهاكها كدولة بحيث لا تمكن من القيام بدور الدولة المحورية والتناقض الرئيسي للمشروع الصهيو- أمريكي في المنطقة.
حيث بدأت إسرائيل في إدماج الاقتصاد المصري في الماكينة الغربية، بتوجيه صانع القرارالسياسى المصرى إلى الدخول في الفخ الأمريكي، ليس في عملية التسوية المنفردة فحسب بل فتح أبواب الاقتصاد المصري على مصراعيه، لتتكفل به سياسات الانفتاح، التي سماها بحق الكاتب السياسى المصرى المرموق أحمد بهاء الدين “سياسة السداح مداح “ لكي تهدم البنيان الاقتصادي، الذي مكن مصر من الصمود في معاركها، التي استمرت أكثر من ربع قرن، وساهم تزاوج رأس المال مع السلطة، التي غرقت في وحل العمالة مع إسرائيل وأمريكا، في ازدهار شبكة مصالح مرتبطة بهذا المخطط الصهيو- أمريكي لتركيع مصر، بحيث تحول الاقتصاد المصرى والحالة المصرية من فساد إدارة إلى إدارة فساد، أفسدت الاقتصاد المصري، تماما، وأغرقت المصريين في فضاء اقتصادي فاسد، أفسد معه كافة مناحى الحياة سياسيا، وثقافيا، واجتماعيا.
هذا ما يرصده الباحث والمفكر الاقتصادى المعروف عبد الخالق فاروق، في كتابه الذى يتعرض لهذا المخطط.
ينتمى عبد الخالق فاروق إلى ذاك الجيل الذى عاش أصداء الانكسارات العظيمة، والانتصارات العظيمة، جيل رغم ما تعرض له ظلت بعض رموزه قابضة على جمر الوطنية، وحب العروبة، والانتماء لهذا البلد، فلم يجرفهم تيار الفساد، وأمسكوا بدفاتر الوطن، يكتبون للأجيال قصة وطن نُهب، وكيف نُهب؟ كما لو كانوا يستشرفون ساعة حساب ستأتى، لإصلاح ما أفسده الطغاة والمفسدون.
يخوض الكتاب، عبر فصوله في عالم سفلى، كما سماه الباحث، عالم الاقتصاد الخفي، حيث ازدهر اقتصاد مواز فاسد، يحظى بكل ألوان الدعم السياسى، من خلال السيطرة على السلطة التنفيذية، بربط الحكومة ووزرائها بشبكات المصالح الفاسدة، وإغواء السلطة التشريعية، بتوريط عناصرها في المال الحرام، ومن ثم السقوط، رقابيا والتبرير والتشريع، دعما لتلك المصالح، حتى وصلت الأمور إلى تعيين أحد أباطرة الفساد في قطاع الحديد والصلب رئيسا للجنة الخطة والموازنة بمجلس الشعب، ثم إرهاب السلطة القضائية، واحتوائها، في الوقت ذاته من خلال الإنتداب في الوزارات، والإعارة للخليج، والسيطرة بأمن الدولة، بحيث أصبحت كل مؤسسات الدولة مسخرة لتلك المصالح، رغبا ورهبا.
يعالج الكاتب، في الفصل الأول، كيف تحول الفساد من انحرافات فردية، إلى بنية مجتمعية، حيث يعرج فاروق على بعض المفاهيم الأساسية، فيعرف الفساد "وفقا لتعريف منظمة الشفافية الدولية" بأنه سوء استخدام السلطة الممنوحة من أجل تحقيق منفعة خاصة، ليتطور التعريف، على يد بعض الباحثين، مثل سوزان روز أكرمان، لتعرفه بأنه السلوك الذى يمارسه المسؤولون في القطاع العام والقطاع الحكومى، سواء كانوا سياسيين، أو موظفين مدنيين، بهدف إثراء أنفسهم وأقربائهم، بصورة غير قانونية، من خلال إساءة استخدام السلطة الممنوحة له
كانت هذه بعض التعريفات المجردة، أما العقل الاقتصادي فقد انشغل بقضية الفساد، وظهر ذلك فيما سماه المؤلف "الاقتصاد الخفي" أى تلك الأنشطة المالية أو الاقتصادية التى تجرى في الخفاء، وتخالف منظومة القوانين السارية، ولا تدخل ضمن الحسابات القومية، ولا تنعكس على هيكل الاقتصاد، لتعادل - كما قدرتها بعض المنظمات الدولية كالبنك والصندوق الدولىيين بما يعادل 23% من الناتج المحلى العالمى وفي دولة، كمصر، بلغ حجم هذا الاقتصاد الموازى والخفي 70% من الناتج المحلى الإجمالى.
ترليون ونصف جنيه مثلت حجم الاقتصاد المصري الخفي في عصر مبارك.
وفي مفهوم أشكال الفساد، وأنواعه، من خلال الحالة المصرية، كنموذج لتحول الفساد من حالات فردية معزولة إلى إلى ممارسة مجتمعية شاملة، يعبر عنها سلوك يومى للعديد من شرائح المجتمع، توزع الفساد إلى قسمين :
الأول: فساد الكبار في الحكومة، والبرلمان، والأمن.
الثانى: فساد الصغار، والفقراء، من خلال الممارسات اليومية الفاسدة.
لقد حددت " منظمة الشفافية الدولية " عام 2001، أكثر المجالات عرضة للفساد فيما يلى :
- المشتريات الحكومية،
- تقسيم وبيع الأراضى والعقارات،
- نظم الجباية الضريبية والجمركية،
- التعيينات الحكومية،
- إدارات الحكم المحلى بالمحافظات،
بالطبع الحالة المصرية فاقت تلك المجالات إلى أفاق أوسع، بحيث شملت عمولات تسلح، وبورصة ومخدرات،ومصارف، وصحافة، وإعلام، فضلا عن تجارة المخدرات، وشبكات البغاء، وغسيل الأموال وغيرها.
ينتقل الكاتب إلى آليات الفساد،التي استقرت كمنهج عمل في عهدى مبارك والسادات :
- سياسات ممنهجة لإفساد المؤسسات الأساسية في المجتمع، والتى يعول عليها في بناء نهضة الدولة، مثل مجلسى الشعب والشورى، والمؤسسات الإعلامية،والقضاء، والنقابات، وأجهزة الأمن
- إفساد الأجهزة الرقابية، من خلال شراء الذمم، وتضييق دائرة اختيار موظفيها من المقربين، من أهل الثقة،
وإهدار معايير الكفاءة، وحسن السمعة .
- وسائل صياغة القانون، التى تتيح فتح ثغرات لحماية الفساد،
- آلية التحايل القانونى، عبر ما يسمى بالصناديق الخاصة، خارج نطاق الميزانية الحكومية، وبالتالى عدم الخضوع لأى رقابة.
بعض أرقام الفساد
انتقل الكاتب لعرض بعض المجالات وحجم الفساد فيها بالأرقام التى لا تكذب
ففي قطاع كالاستيراد والتصدير قدرت العمولات التى حازها السماسرة، والوسطاء،ورجال البنوك والجمارك بمبلغ يتراوح بين 800 مليون دولار، إلى 2 مليار دولار.
التجارة في ديون مصر الخارجية شبه المعدومة، حيث اشترى جمال مبارك، بتمويل من بعض أبناء الشيخ زايد وبعض أمراء الأسرة السعودية، الديون، ثم أعاد بيعها للحكومة المصرية، مقابل عمولات ونسبة سمسرة، بلغت من 150 إلى 200 مليون دولار.
قدرت قيمة شركات القطاع العام، الذى قررت الدولة تصفيته،وعهدت إلى مكاتب تثمين، قدرت قيمة تلك الشركات بمبلغ من 300 إلى 500 مليار جنيه، لتبيع الحكومة نصف الشركات،أى 194 شركة،بقيمة إجمالية 50 مليار جنيه،أى خسارة حوالى 200 مليار جنيه.
في قطاع كقطاع البنوك تظهر تقارير الجهاز المركزى للمحاسبات، ما يلى :
1- 94 عميلا للبنوك الحكومية حصلوا على أكثر من نصف حجم القروض، والائتمان الممنوح لعملاء البنك بما يساوى 125 مليار جنيه.
2- 25 عميلا حصلوا من "البنك الأهلى "على 40 من القروض الممنوحة، وبما يساوى مبلغ 45 مليار جنيه أحد هؤلاء عميل حصل على قرض بمبلغ 2 مليار جنيه بضمان قطعة أرض حصل عليها من الحكومة المصرية، لإقامة مدينة سكنية، وفيلات لم يسدد من ثمنها مليما واحدا.
3- قدرت الأموال الناتجة عن نشاط المخدرات بمبلغ 15 مليار جنيه، سنويا.
4- أما تجارة السلاح، والعمولات المرتبطة به، فلم يقف الكاتب على أرقام موثقة، بالنظر لطبيعة هذا النشاط، وما يحاط به من سرية شديدة، وإن توصل فاروق إلى بعض الأرقام التقديرية الناتجة عن حساب العمولة، والتى قدرها بنسبة من 0.5 % إلى 5% بحوالى 300 مليون جنيه، سنويا تذهب لكبار أباطرة هذا المجال.
5- قدر جحم ماجرى إهداره من الغاز الطبيعى وحده بسبب سياسات التسعير المشكوك مقاصدها مع الكيان الصهيونى أو فرنسا أو أسبانيا وإيطاليا في الفترة من عام 2002 وحتى عام 2010 بحوالى 4 إلى 5 مليارات دولار، سنويا ( ص 53 )
الثانى : اقتصاد الفساد لدى أهل القاع والفقراء
- تجارة السوق السوداء نتيجة انهيار منظومة التعليم الرسمى، وقد قدر " مجلس الشورى " في عام 1994،حجم ما تدفعه الأسر للدروس الخصوصية، والتعليم الموازى بعشرة مليارات جنيه، زادت، في العام 2005، إلى 18 مليار جنيه.
- قطاع الأمن والعدالة، وما يحدث في دهاليز تلك الأجهزة، بلغ حجم الفساد فيه 3 مليار جنيه . سنويا.
- قطاع الخدمات الصحية، والمستشفيات، والفساد داخله، بلغ حجم الأموال الفاسدة فيه من 500 مليون إلى مليار جنيه، نتيجة تردى المنظومة الرسمية للصحة .
- المحليات ووحدات الحكم المحلى، بلغ الفساد الناتج عن ممارساتها 10 مليارات جنيه،تمثل إيرادات السلع المهربة، وغيرها.
- أنشطة الدعارة، تحت لافتة السياحة، قدرت بمبلغ 2.5 مليار جنيه.
لو قمنا بجمع تلك الأرقام لأموال، وتدفقات الاقتصاد الخفي، والأموال السوداء،لتراوحت مابين 57 و70 مليار جنيه، خلال عام واحد فإننا نكون إزاء ما يقارب من 500 مليار جنيه، جرت في مصر، من خلف ظهر الحسابات القومية، ومصفوفة تدفقات الدخل القومى الرسمى، خلال العشر سنوات الماضية فقط،لنصبح إزاء ترليون ونصف جنيه، مثلت حجم الاقتصاد المصري الخفي، في عصر مبارك.
يتعرض الكاتب، بعد ذلك، لبعض نماذج جرائم فساد ونهب مرعبة، مثلت علامات في عهد مبارك، وما شابه من فساد
قضية أجريوم
أجريوم هى إحدى شركات إنتاج البتروكيماويات الكندية المشهورة فى العالم، وحيث أن هذا النوع من الإستثمار هو إستثمار ضار بالبيئة، نظرا لما ينتج عنه من مواد ومركبات ملوثة للبيئة، يتم إنشاء تلك الصناعات فى أماكن صحراوية، بعيدة عن حيز العمران البشرى، حيث قفزت تلك الشركة على كل القواعد القانونية والبيئية، بإختيار هذا المكان المأهول بالسكان، لتنشأ مشروعها، حيث مثلت تلك القضية مثالا صارخا للفساد والتحايل والاحتيال القانونى والاقتصادى من خلال الأبعاد التالية :
1- الأبعاد القانونية والإدارية،
2- الأبعاد البيئية والصحية،
3- الأبعاد الاقتصادية والمالية،
حيث انطوت القضية على مخالفات في كافة الأبعاد السابقة، بما يضر بمصالح مصر، حيث تجسد تحالف شبكات المصالح الفاسدة من خلال شخصيات سياسية وتنفيذية، وفرت الغطاء القانونى والسياسى، كهيئة الاستثمار، من خلال الشركة القابضة للبتروكيماويات، وهيئة ميناء دمياط، ثم هيئة التنمية الصناعية، وجهاز شؤون البيئة، حيث قدرت الخسائر المباشرة، في حال إتمام المشروع، بأكثر من 450 مليون دولار، سنويا أما الخسائر غير المباشرة والتى ستنتج من تأثر قطاع السياحة، والصيد، والزراعة، فقد قدرت بأكثر من 3.7 مليار جنيه، سنويا.
نواب القروض
مثلت تلك القضية نموذج حالة للفساد المنظم في القطاع المصرفي،الذى تدثّر بعباءة البرلمان، ليتجسد في تشكيل عصابى،استولى على 40 مليار جنيه، تم تهريبها للخارج، مما أصاب الجهاز المصرفي بشلل كامل،حيث تم من خلال آلية إفساد منظم، وعبر نصوص قانونية إغواء أعضاء البرلمان، وفتح ثغرة ينفذ منها النائب بجريمته، ليتم تجريف أموال البلد، تحت عين البرلمان،ويحاكم هؤلاء النواب ثم يفرج عنهم من أجل أن يفتح الباب لمفهوم التصالح مع المتعثرين، بحيث يقنن النهب، وتضيع أموال البلد.
قانون الخصخصة الجديد شهادة إبراء ذمة أم توريط الشعب المصري في جريمة تبديد الممتلكات العامة ؟!
تفتق ذهن شياطين حكومة الحزب الوطنى، ولجنة سياساته، عن خدعة جديدة، فبعد أن باعو اللحم ولم يبق إلا العظم، بتعبير د كمال الجنزورى، رئيس وزراء مصر الأسبق، قرر هؤلاء أنهم سيقومون بتوزيع صكوك ملكية القطاع العام، أو ما تبقى منه بالأحرى، للشعب، حيث حددت الشركات التى تملك الدولة فيها حصصا تدور حول 30%، كمرحلة أولى، ورغم الصعوبات الفنية، والمالية، والاقتصادية لهذا المشروع، ورغم الزفة الإعلامية التى أحيط بها، وعبثية الفكرة، وما تمثله من فرصة سانحة لكبار رجال المال والأعمال، لشراء تلك الصكوك،بنصف قيمتها الاسمية، فإن الحكومة تخلت عن الفكرة، بعدما تم اكتشاف الخدعة التى كانت ترمى إلى إبراء ذمة الحكومة من تبديد أصول القطاع العام، وتوريط الشعب في تبديد تلك الممتلكات، لكى لا يستطيع أحد أن ينكر عليهم ما باعوه، وما بددوه من ثروات.
قانون مشاركة القطاع الخاص في مشروعات البنية الأساسية
مثل قانون رقم 67 لسنة 2010 آخر سهم في جعبة تلك العصابة لتتخلى الدولة عن آخر مسؤولياتها تجاه مواطنيها، بإشراك القطاع الخاص في مشروعات البنية الأساسية، وفق صيغةB O O T، حيث، ومن خلال ما يسمى بلجان التأهيل، التي تدخل شركات القطاع الخاص من خلال ممثليها في مفاوضات ومناقشات مع صغار الموظفين سموها الحوار التنافسى بما يفتح الباب لإغوائهم بالمال وتمرير العروض تمهيدا في مرحلة لاحقة، يتولى فيها القطاع الخاص إدارة مرافق الدولة، وفق رؤية رجال الأعمال، الذين لا يدركون الفرق بين إدارة دولة وإدارة الشركات،ولا عزاء للمواطن المصري المطحون، ولا لأقدم دولة مركزية في العالم.
ينتقل الكاتب في الفصل الثانى من الكتاب، إلى كيفية إهدار فرص التنمية الحقيقية، من خلال التعرض لآليات تبديد وإهدار الموارد، والتى حددها المؤلف في ثلاث آليات أساسية:
1- عمليات تهريب الأموال، التى جرت في عهد نظام مبارك، من خلال ثغرات صممت خصيصا في القطاع المصرفي والبنوك.
2- عمليات الخصخصة، وبيع الشركات المملوكة للمجتمع، وما لحق بها من فساد.
3- التصرف الواسع في أراضى الدولة، لخلق طبقة جديدة من رجال الأعمال، تصبح ظهيرا وسندا للنظام الحاكم وتمثل حالة أحمد عز نموذجا مثالىا للاحتكار المحمى بالسلطة السياسية.
قدم الكاتب، بعدها، في تفصيل مذهل، حالات تدلل على سمات وخصائص عصر سياسى واقتصادى واجتماعى عاشته مصر، من بدء التحول التاريخى في مسار مصر بدءا من عام 1974، وصولا إلى عام 1991،عام البدء فيما عرف بسياسة الخصخصة، من خلال المرور على تجربة "الشركة المصرية للاتصالات "وما جرى في قطاع الاتصالات وقد أفرد فاروق لهذه الشركة فصلا كاملا مدعما بالوثائق، والجداول الموضحة، بما يكشف فصلا آخر من فصول الفساد، في أحد أهم القطاعات في الدولة، والذى يمس مساحة من مساحات نفوذ الشركات العابرة للقارات، ثم تعرض المؤلف لمنهج الإفساد في الصحافة، بما تمثله مع الإعلام، من سلطة رقابة شعبية بهدف احتواءها من خلال الإفساد الممنهج.
تناول الكاتب في الفصل الخامس من الكتاب ما سماه " سياسات مالية تعزز الفساد " حيث تم اعتماد سياسات افتقرت إلى الشفافية والوضوح، وتعمد الغموض، وهيمنة المنظور العسكرى والأمنى على المخصصات المالية، حيث تم تغيير تبويب الميزانية، بهدف إرباك التحليل المالى والاقتصادى وأكذوبة زيادة الدعم السلعى، والإنفاق الاجتماعى، بتضمين ما يسمى بالدعم الضمنى للمشتقات النفطية، والتى قدرت بحوالى 22 مليار جنيه تمثل الفارق في السعر، بين بيع المنتجات البترولية المصرية في السوق المحلية، ومثيلتها في الأسواق العالمية.
ثم ما سماه الكاتب "لغز بند الاعتماد الإجمالى" حيث تضمنت موازنة 2005 _ 2006 بند اعتماد إجمالى أخر حوالى 16.5 مليار جنيه ويمثل هذا المبلغ ثغرة إبليس حيث توجه تلك المبالغ لمنح مكافآت ومزايا لأفراد وفئات خارج نطاق القوانين المعمول بها في جهات الشرطة والجيش.
قانون الضرائب الجديد والمسمى بقانون ضرائب الدخل الجديد رقم 91 لسنة 2005 حيث حدد القانون سقف الضريبة بنسبة 20 % بينما كانت النسبة في القانون القديم 42%، أصبحنا إزاء ضرائب يدفعها الفقراء، ويتهرب منها الأغنياء، بفتح الباب للتلاعب المحاسبى والاحتيال السياسى .... ص 246.
يتعرض الكاتب في المبحث الرابع من الفصل الخامس لمناط التلاعب وعدم الإفصاح في الموازنة العامة للدولة من خلال التلاعب في التقسيم النمطى للموازنة، في إطار الدمج القسرى للاقتصاد المصري، والمالية العامة في الهيكل الاقتصادى العالمى، والذى ترعاه مؤسسة صندوق النقد الدولى، ثم تلك التأشيرات العامة التى سلبت 12 مادة منها، سلطات مجلس الشعب في الرقابة على الموازنة العامة، وإعادة التصنيف والتبويب في البنود للالتباس.
أكذوبة الدعم الافتراضى
بدأ وزير المالية السابق، يوسف بطرس غالى، تطبيق تلك الفكرة الشيطانية المسماة "بالدعم الافتراضى" أو ما يسمى "بنفقة الفرصة البديلة " بتقدير الفرق بين سعر المشتقات البترولية في الداخل، وسعرها في السوق العالمية معتبرا الفرق، والبالغ 108 مليار جنيه دعما حكوميا يضاف لرقم الدعم.
الأجور ومأساتها والأجور المخفية
أما الأجور، ومأساتها، والاختلالات في الدخول بين الفقراء والأغنياء، فهناك أجور مخفية، لا يعلم عنها أحد بما يصل بتلك الأرقام، سنويا، إلى 3 مليار جنيه يستحوذ عليها ما لا يزيد عن ثلاثة آلاف شخص من كبار المسؤولين، في الجيش، والشرطة، والحزب، كما تخضع أرقام هذا الباب من الموازنة إلى تلاعب منها، على سبيل المثال، أن الرقم المعلن لإجمالي الأجور والمرتبات والبالغ في موازنة 2010_ 2011 حوالي 94.6 مليار جنيه لا يعبر عن حقيقة ما يجرى، حيث يحتجز من 25% إلى 30% لدى الحكومة في صورة استقطاعات ضريبية، أما ما يذهب لأصحاب الوظائف الدائمة، وعددهم حوالى 5.6 مليون موظف، فلا يزيد عن 21% من قيمة إجمالى الأجور، فضلا عن الدخول الرسمية، والدخول المخفية، تحت مسمى المزايا العينية والتى تمتد لتشمل تخصيص قطع أراضى، مقابل أسعار زهيدة، وتخصيص فيلات، أو شاليهات، في مناطق مميزة، بأسعار زهيدة، ورحلات وتذاكر مجانية في الطائرات، والسفن، والقطارات.
سوق التأمين وما يجرى فيه
يتعرض الكاتب إلى سوق التأمين المصري،الذى يمثل مع قطاع البنوك رئتى التنفس للاقتصاد، فالأول يقوم على تعبئة المدخرات، والثانى بدونه لا تستقيم أمور اقتصاد الدولة، فهو الذى يقدم التغطية التأمينية من المخاطر، فتحقق، عبر هذه المظلة، دورة استثمارية إضافية، وقبل عام 1956 كان معظم هذا القطاع في يد المؤسسات الأجنبية، حتى عادت السيادة المصرية على هذا القطاع، بحيث أصبحت الشركات الحكومية الأربع (مصر – الشرق – الأهلية – المصرية لإعادة التأمين ) تستحوذ، وحدها، على حوالى 80% إلى 85% من نشاط هذه السوق، حيث تجاوز حجم الأقساط المتاحة لدى هذه الشركات الحكومية الأربع 3.6 مليار جنيه في عام 2007، قدرت أرباحها بحوالى 750 مليون جنيه، تشكل " لوبى "خلال الثلاثين عام الماضية عمل على التخلص من الملكية الحكومية لتلك الشركات، من خلال خطة ماكرة، بمسمى "إعادة هيكلة قطاع التأمين "من خلال دمج الشركات الحكومية في شركة واحدة، بدمج قسرى، ثم إعادة التفكيك، مرة أخرى، من خلال صناديق متنوعة، تفتح الباب للنهب المنظم، حيث تم فصل الأصول العقارية المملوكة لشركات التأمين العامة، والمقدرة، وقتئذ، بحوالى 19.5 مليار جنيه عن بقية الأصول، ووضعها تحت زمام شركة جديدة هى "مصر لإدارة الأصول العقارية" تحت قبضة وزير التصفية، محمود محيى الدين، ثم فصل النشاط الاستثماري للشركات، وإحالته إلى كيان جديد، تحت مسمى "شركة مصر لإدارة الاستثمارات المالية "وبدورها تشكل مجلس إدارة للشركة الوليدة من المحاسبين وأبناء الحزب الحاكم مقابل عشرات الألوف من الجنيهات، شهريا.
هذه الأصول المالية والعقارية تمثل محفظة مالية متكاملة، تتيح قدرات هائلة تضمن التوازن المالى والاستثماري في مواجهة أى ظروف إقليمية أو دولية في حال وجودها بحوزة الدولة وليس بيعها.
أخيرا قاموا بفصل نشاط التأمين على الممتلكات عن التأمين على الأشخاص والحياة كما طالب "البنك الدولى "ورجاله وفي مقدمتهم عاطف عبيد رئيس الوزراء المصرى الأسبق .
كانت أبرز التداعيات والأخطار المترتبة على ذلك، ما يلى:
- تدمير الجهاز الإنتاجى والتسويقى، الذى امتلكته تلك الشركات، عبر 50 عاما.
- تفتيت الكيانات الإدارية والفنية، لكل شركة تتولى كيانا منفصلا.
- إضعاف المحافظ المالية، والملاءة المالية للشركات، بما يضعفها أمام الشركات الأجنبية.
- تدمير علامات تجارية، تأسست منذ عام 1931.
وهكذا جرى تفتيت هذه الكيانات العملاقة بحيث أن مزاعم الدمج لم تكن سوى مرحلة على طريق التدمير، ونشل الشركات العامة، -على حسب تعبير الكاتب-.ص 273.
نحو مشروع وطنى لتشكيل اللجنة الوطنية العليا لمقاومة الفساد ونهب مصر
ينتقل الكاتب، بعد هذه الجولة في مناطق الفساد في جسد الاقتصاد المصري، حيث شخص الأمراض التى أحاطت بهذا الجسد، إلى وصف العلاج الذى يراه، حيث يطرح في الفصل السادس والأخير من الكتاب، تحت هذا العنوان
يذهب إلى البدء بتجميع الوثائق، والمستندات، وإعداد عريضة اتهام سياسية وقانونية، توثق جرائم هذا النظام،تمهيدا لمحاكمته، من خلال لجنة وطنية عليا، تتجرد من الاعتبارات السياسية، وتشكل من عناصر قضائية مشهود لها بالنزاهة، وأعضاء مجلس شعب، وأجهزة رقابية مقترحا بعض الأسماء ومحددا بعض الآليات التى يجب أن تحكم عملها بمنسق عام، ومقرر، وجلسات استماع، حيث يقترح المؤلف أن يتسع نطاق عمل اللجنة ليشمل كافة مظاهر، وسلوكيات وممارسات الفساد ونهب المال العام وإهدار الموارد المالية والاقتصادية للدولة ولكنها تركز في المرحلة الأولى لعملها الذى سيمتد مابين ثلاث إلى خمس سنوات على المجالات التالية :
- التصرف في الأراضى المملوكة للدولة، سواء بالبيع، أو التخصيص أو التأجير، أو بوضع اليد.
- جميع أنشطة وزارة الإسكان والمرافق، والمجتمعات العمرانية الجديدة، من مناقصات، ومزايدات وتخصيص الشقق، والفيلات والأراضى.
- التصرفات غير القانونية، التى جرت في البنوك والمصارف، التى أدت إلى إهدار أكثر من 40 مليار جنيه خلال السنوات العشر الماضية، وكذلك تتبع عمليات التهريب القانونى، وغير القانونى للأموال.
- كل الملابسات والوقائع المرتبطة بخصخصة الشركات العامة، منذ عام 1991.
- وقائع الفساد، ومحاولات إفساد أعضاء المؤسستين، القضائية والتشريعية.
- وقائع إفساد العاملين في المؤسسات الصحفية الحكومية وغير الحكومية.
- وقائع وتفاصيل خصخصة الخدمات الأمنية وأقسام الشرطة والمؤسسات الشرطية عموما.
- محاولات إفساد الجامعات الحكومية وكوادرها الأكاديمية.
- وقائع ومحاولات إفساد النظام الصحى المصري والتأمين الصحى والمستفيدين منه.
- ما يجرى في قطاع الدواء وهيئة الرقابة الدوائية ومحاولات خصخصته.
- ما جرى من وقائع فساد وإفساد في التصرف في أموال المعونة الاقتصادية الأمريكية طوال العقدين الماضيين.
احتوى الكتاب في خاتمته على ملاحق تعزز مادة الكتاب:
الملحق الأول: العقد الموقع بين هيئة التنمية الزراعية المصرية والوليد بن طلال في مشروع توشكى، والمبرم في عام، 1998وما احتوى عليه من مخالفات جسيمة أهدرت المصالح الوطنية لهذا الشعب المنكوب.
الملحق الثانى: العقد الموقع بين هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة، وهشام طلعت مصطفي في مشروع مدينتى، والمبرم في عام 2005 وما حواه من فساد مريع.
الملحق الثالث: ضمنه الكاتب نصوص المواد، التى تجرم بعض جرائم الفساد في قانون العقوبات المصري.
الملحق الرابع: معايير الشفافية والنزاهة، ومكوناتها وفقا لمنظمة الشفافية الدولية.
الملحق الخامس: نماذج من عمليات بيع الأراضى المملوكة للشركات الحكومية في إطار برنامج الخصخصة.
وفي الملحق السادس والأخير: وردت مذكرة النيابة العامة في قضية رشوة مستشارين وموظفين بمجلس الدولة، والتى اكتفت فيها النيابة العامة بمحاكمة المتهمين، تأديبيا، تحت مسمى مصلحة مجتمعية شديدة الاعتبار ويا للسخرية، مصلحة مجتمعية شديدة الاعتبار.
أى مجتمع، وأى مصالح، بعد هذا الطوفان، الذى أغرق البلاد، طوال عقود من الفساد، والاستبداد، والقمع؟!
يُعد هذا الكتاب صرخة وطنى شريف، يحب بلده ويريد لها أن تكون وطنا للشرفاء، لا عزبة للصوص لم يرحموها ونهبوها كما لم ينهبها أحد في التاريخ يحسب للكاتب أنه لفت النظر،إلى أن البيئة الأخلاقية ليست مسؤولة وحدها عن الفساد، بل الظروف القانونية والسياسية،التى أتاحت جوا قادرا على إفساد أى إنسان مهما كان رصيده من الأخلاق، بحيث أصبح الفساد طوفانا أغرق الجميع، بما يكشف الحاجة إلى تحصين أى نظام سياسى قادم، مما أحاط بالنظام السابق، وأسقطه فى تلك الهاوية التى سقطت فيها مصر، وثار الشعب، من أجل إعطاء مصر فرصة جديدة لحياة تليق بها، يحسب أيضا لفاروق أنه صدع بكلمة الحق، فى وقت لم يكن يجرؤ الكثيرين على فعل ذلك، وفى كل الأحوال يبقى الكتاب وثيقة إدانة بالمعنى الحقيقى للكلمة، ستبقى شاهدة على وطنية وتجرد الكاتب.