السفير يسري القويضي رحلت في هدوء بمرسمها في مدينة نيويورك الفنانة لويز بورجوا في نهاية مايو 2010، كانت فنانة شاملة مارست كل صنوف الإبداع التشكيلي ؛ فهي رسامة, ومصورة, وحفارة, ومثالة, وخزافة, ومصممة لفن البرفورمانس, كما أنها فنانة تركيبية قديرة ساهمت بقدر وافر في ازدهار الاتجاهات الحداثية المعاصرة. أتاح امتداد عمرها المقارب لقرن من الزمان فرصة لها للتعرف على كافة الاتجاهات الفنية التي ظهرت بأوروبا منذ الحرب العالمية الأولى وحتى الآن, مما جعل من المتعذر على نقاد الفن وكتابه تصنيفها, واعتبرها البعض علما قائما بذاته. لقد عرف القرن العشرين عددا من الفنانين المبدعين المعمرين الذين ظلوا نشطين فنيا حتى قرب وفاتهم, وعلى سبيل المثال وليس الحصر كل من بول دلفو (97 ), ومارك شاجال (98), وماكس ارنست (95 ), وبيكاسو (92 ), وها هي لويز بورجوا تنضم إلى تلك الفئة من الفنانين المعمرين (99) بل وتسبقهم في طول البقاء. نشأت لويز في ظل أسرة مقتدرة بفرنسا, مكنتها من الالتحاق بجامعة السربون بباريس لدراسة الرياضيات والهندسة والفلسفة, كما أتاحت لها حياة اجتماعية نشطة متنوعة, تصطاف في جنوبفرنسا صيفا, وتمضى جانبا من الشتاء في منتجعات التزحلق على الجليد, تساير أحدث صيحات الموضة فترتدي تصميمات كوكو شانيل التي أحدثت انقلابا في عالم الأزياء في زمانها, قادت السيارة في وقت كان امتلاك السيارة فيه ترف لا تقدر عليه سوي طبقات محدودة بالمجتمع. بدأت لويز احتكاكها بعالم التصميم والفن منذ أن كانت في الثانية عشر من عمرها عندما كان يعهد إليها والدها إعادة رسم الأجزاء المتآكلة من السجاد قبل إعادة نسجه في المصنع الذي تمتلكه العائلة, وبعد انتهائها من دراستها الجامعية تعرفت على الفنان فرناند ليجيه الذي كان أول من اكتشف موهبتها كمثالة واعدة, وشجعها على حضور دورات دراسية فنية, فالتحقت بالعديد من استوديوهات الفن في مونمارتر, ومونبارناس, كما عملت مرشدة بمتحف اللوفر لمرافقة الزوار المتحدثين بالانجليزية لتمكنها من تلك اللغة. تعرفت لويز في عام 1938 على المؤرخ والناقد الفني الأمريكي روبرت جولدووتر Robert Goldwater وقبلت الزواج منه, وانتقلت معه إلى نيويورك لتعيش فيها وتنجب ولدين وتتبنى ولدا ثالثا, لقد اهتمت لويز بواجباتها العائلية كزوجة وكأم بقدر ربما فاق قليلا اهتمامها بممارسة نشاطها الفني, لكنها رغم مسؤولياتها الأسرية انضمت فور وصولها إلى نيويورك لمدرسة جماعة طلاب الفن Art Student League و درست فيها مدة عامين متتاليين. لم تكن لويز موضع ترحيب من زملائها الأمريكيين لكونها فرنسية من جهة, كما أنها بطبعها خشيت اقتحام مجال الفنانين الذكور من جهة أخرى, فاحتجبت لوقت طويل, انشغلت فيه بشئون أسرتها, ولم تنل في بداية حياتها الفنية القسط الذي تستحقه من الشهرة. شاركت لويز في عدة مناسبات وأنشطة فنية منها تعاونها في عام 1943 مع الفنان الشهير الكسندر كالدر, وكذلك مع الفنان أندريه ماسون في برنامج تأهيلي لمساعدة جرحى الحرب, وفى عام 1945 نظمت أول معارضها الخاصة, ولكنها لم تلق أي نصيب من الاهتمام إلا في عام 1947 عندما أصدر زوجها مجلة الفن Magazine of Art, والتي كانت أول مجلة تسلط الضوء على مجموعة فناني التجريد التعبيري Abstract Expressionism , فأشير لها باعتبارها من فناني المجموعة. بحلول عام 1951 تعرضت لويز لبضع أحداث, فعلى الجانب السيئ من الأحداث توفى والدها, وكان شخصية لها تأثير متناقض عليها, أحبته واقتدت به وبأسلوبه في أشياء كثيرة, وفى نفس الوقت مقتته وكرهته منذ صغرها بسبب خيانته لوالدتها مع معلمتها الإنجليزية. لقد استمرت ذكريات طفولتها تلك تطاردها, وظل حبها وكرهها لوالدها محورا لكثير من أعمالها التي اشتهرت بها فيما بعد. وفى الجانب الطيب من أحداث عام 1951 كان حصولها على الجنسية الأمريكية, كما أن متحف الفن الحديث بنيويورك MOMA عرض أول عمل لها به. انضمت لويز في عام 1954 إلى جماعة الفنانين التجريديين الأمريكيين American Abstract Artists Group , وهكذا بدأت خطواتها الوئيدة نحو الشهرة, والتي تأكدت في عام 1973 بعد وفاة زوجها, وتفرغها للفن, وبدأت تحصد الجوائز وتشارك في المحافل الفنية الدولية, ومنها علي سبيل المثال, الدكيومنتا التاسع في مدينة كاسل عام 1992 , وبينالي فينيسيا 1999. وتعرض أعمالها حاليا في أشهر المتاحف وقاعات العرض العالمية. وتتحدث لويز عن أعمالها فتقول أنها تستلهمها من ذكريات طفولتها بكل ما فيها من حزن وسعادة, أن أدواتها هي أفكارها وانفعالاتها الخاصة, وتضيف أن فكرتها عن العزلة والتوحد في عالمها الخاص كانت نتيجة تجارب شخصية مرت بها, وأنها ابتكرت أسلوب عرض مميز لأعمالها داخل صوامع Cells, أو قل حضانات, أو ربما عرين Lair, تعبيرا عن خشيتها مما حولها, فتهرب إلى الداخل تعرض قطعا من أعمالها, تحمل كل قطعة منها ذكرى, أو رمز لشيء لديها. تأثرت لويز كثيرا بأعمال المثال الشهير رودان Rodin وكذلك بالمثال برانكوزي Brancusi, لكنها لم تقصر نشاطها على التعامل مع الخامات التقليدية كالخشب والأحجار والصلصال فقط, وإنما جارت التطور الحادث في عالم الفن, فاستخدمت أيضا الخامات غير التقليدية من معادن ولدائن وقطع جاهزة الصنع وكل ما تقع يدها علية من أشياء, إنها فنانة تصاعد منحنى شهرتها ببطء, ولكنه متواصلا تجاه القمة, فنانة اعتركت كل الاتجاهات الفنية التي ظهرت في القرن العشرين وتمرست عليها, دأبت على العمل في صمت وعزلة وحفرت لنفسها اسما ومكانة تستحقها في تاريخ الحركة الفنية العالمية.