لست من الفقهاء في القانون الدستوري, ولكن بمناسبة هذا الصخب الدستوري الدائر الآن فإن لدي مجموعة من الخواطر الدستورية, أود أن أضعها أمام بصر كل المعنيين بصياغة الدستور المصري الجديد لعل يكون فيها نفعا. من المعلوم أن الدستور هو أبو القوانين, ومعنى ذلك أنه هو الذي يحدد مشروعية أو عدم مشروعية كل القوانين الأخرى التي تنظم وتضبط سير الحياة في المجتمع والدولة, لكن يثور سؤال هنا ما الذي يحدد لنا مشروعية أو عدم مشروعية الدستور ذاته؟ فمن المعروف أنه لا يوجد دستور واحد يصلح لأن يكون هو المرجعية لتشريع القوانين في كل المجتمعات والدول, وإلا كانت مسألة وضع الدستور وصياغته سهلة جدا فما علينا إلا أن نضع أيدينا على دستور أي مجتمع أو دولة وننقله كما هو ليكون دستورنا ومرجعيتنا. إذا كان الدستور هو أبو القوانين فإن الهوية الحضارية للمجتمع هي التي تحدد مشروعية أو عدم مشروعية الدستور, ومدى صلاحيته لضبط الحياة في المجتمع على أسسه الحضارية بالشكل الذي يتيح للمجتمع ولكل فرد فيه تقدمه على قواعد تحقيق التوازن بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع والحرية والعدالة السياسية والاجتماعية والمساواة السياسية والقانونية, ويفتح الطريق أمام المجتمع لمواصلة رسالته الحضارية. ومن المعلوم أيضا أن الهوية الحضارية تتعدد بتعدد الأمم, فلأن الظروف التاريخية التي أحاطت بمولد كل امة وأطوار تكونها واكتمال تكونها ونموها مختلفة بالنسبة لكل أمة عن غيرها من الأمم, لذلك فإن لكل أمة هويتها التي تميزها عن غيرها من الأمم, ولا تمتاز بها عليها, وعليه فإن اختلاف الدساتير ضرورة تفرضها اختلاف الهويات الحضارية. لذلك فإنه يجب أن تكون لكل دستور هوية منبثقة من هوية المجتمع أو التي وضع الدستور لينظم حياتها, وبقدر ما يكون ذلك محققا بقدر ما يكون الدستور ذاته شرعيا قادرا على فتح كل الطرق القانونية المشروعة لبناء وتطور الأمة الحضاري. من هنا تأتي الأهمية القصوى للتأكيد على هوية مصر وهوية ثورتها ونحن نهتم ونشرع في وضع و صياغة دستور يكون مرجعيتها بعد الثورة, لأن ذلك يساعدنا على تحديد هوية وروح الدستور الذي نريده, إن هوية الأمة ليست من طبيعة مادية, إنها من طبيعة روحية وشعورية وأخلاقية, وعليه فإن الهوية ليست من طبيعة جغرافية قارية أو إقليمية فقط وبالتالي فإن هوية مصر لا تتحدد بموقعها الجغرافي أو الإقليمي فحسب وإنما تكتمل هويتها بفطرتها وصبغتها الحضارية, وهوية مصر إسلامية عربية, ولقد تعربت مصر بالإسلام وبتعربها أصبحت جزءاً من الأمة العربية التي هي بمثابة القلب من العالم الإسلامي وبأسلمة مصر وبتعربها أصبح لها دور ورسالة, دور قيادي ورسالة ووظيفة حضارية, أصبح لها مشروع حضاري, ويشهد التاريخ أن هذا المشروع مرتبط بالتوحيد العربي, ويشهد أيضا على الدور القيادي لمصر بالنسبة لعملية التوحيد لمواجهة المخاطر التي تواجه المشروع الحضاري للأمة, ومنذئذ ومصر مرتبطة عضويا بمصير أمتها وارتبطت كل محاولات إضعاف مصر والأمة بفك هذا الارتباط, خلاصة الأمر أن مصير تقدم مصر ونهضتها مرتبط بوحدتها مع أمتها, كما أن هذه الوحدة حتمية وضرورية للانتصار في المواجهات التي تتعرض لها. إن الوعي بهذه الحقائق التاريخية والمصيرية تعرض للتشويش بسبب الغزوات الاستعمارية منذ ثلاثة قرون تقريبا, لأن هذه الغزوات اعتمدت لإضعاف مصر والأمة ثلاثة عوامل, الأول: التغريب والتبشير، والثاني: التجزئة والتفتيت، والثالث: زرع الكيان الصهيوني في قلب الأمة في فلسطين لحراسة التجزئة والتغريب وإجهاض كل محاولات التوحيد والنهضة, الخطير في الموضوع أن هذا الثلاثي المتكامل التجزئة – التغريب – الصهيونية أحدث أثره في الوعي الجمعي في مصر والأمة كلها, بأن أصبحت قضية الوحدة على هامش بؤرة الشعور والوعي وليست في قلبها, وأصبحت النخب السياسية والناس في مصر كما في كل بلد عربي يسيرون في اتجاهات متعارضة وليس في اتجاه واحد وهدف نهضوي واحد, ولأن وحدة الهدف والاتجاه ضرورية للنهضة فإن جميعهم يسيرون الآن نحو الهزيمة و مزيد من التبعية والتخلف والاستبداد. و حتى لا تستمر الثورة في السير على الطريق الاستعماري الغربي الصهيوني فإن اللجنة التأسيسية للدستور عليها أن تقنن دستوريا أمرين: أمر هوية الأمة، وأمر طريق وحدتها لأن الأمرين هما قاعدة انطلاق مصر ونهضتها, فلا نهضة لمصر بعيدا عن هويتها ولا هوية لها بعيدا عن وحدتها مع أمتها, ولذلك فإن الهوية والوحدة يجب أن يتصدرا دستور الثورة, فيجب أن ينص الدستور على أن الإسلام –مصدر الهوية العربية لمصر- هو دين الدولة وأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع, كما يجب أن ينص الدستور أيضا على أن مصر جزء من الأمة العربية وتعمل على وحدتها, وعلينا أن نعي أن النص على الإسلام وشريعته لا يغني أبدا عن النص على عروبة مصر والعمل من أجل الوحدة, لأن عدم النص على عروبتها يفتح الباب للتغريب والتفتيت, كما أن النص على أن دين الدولة هو الإسلام وأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع يوجب النص في الدستور على حق المسيحيين في الالتزام والعمل بشريعتهم في أمورهم وأنهم جزء لا يتجزأ من النسيج العربي لمصر. إن من المهم أن نؤكد على ضرورة عدم الالتفاف دستوريا على هذه النصوص, بأن يتضمن الدستور بعض المواد التي تبطل في الواقع نصه على هوية مصر و عروبتها, أو أن تأتي ببعض القوانين الأخرى فتبطلها بالمخالفة للنص الدستوري كالنص على علمانية الدولة وتجريم العمل من أجل الوحدة لأن ذلك يعني عدم الدستورية من جهة والسير على طريق التخريب والتبعية والتخلف والاستبداد مرة أخرى, وإنني ألاحظ اهتمام واتفاق كل الأحزاب والقوى السياسية على تضمين الدستور نص بأن الإسلام دين الدولة وأن الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع مع الإصرار على تغافل انتماء مصر العربي والعمل على وحدة الامة التي جزئها الاستعمار والصهيونية, إن هذا بالفعل هو الخطر الأعظم على مصر وعلى الإسلام نفسه. ** مفكر قومي إسلامي ووكيل مؤسسي حزب التوحيد العربي [email protected]