بدا واضحا مع غروب شمس اليوم الذي يوافق الذكرى الأولى لسقوط النظام السابق، أن دعوة الإضراب والعصيان المدني التي تبناها عدد من الأحزاب والحركات السياسية والشبابية في مصر قد تم تجاهلها شعبيا إلى حد كبير، حيث لم يلب الدعوة سوى أصحابها وعدد من طلاب الجامعات، على نحو جاء بمثابة استفتاء غير رسمي رفض فيه غالبية المواطنين على اختلاف مشاربهم اللجوء لهذا الأسلوب في هذا التوقيت وفى هذه الظروف الدقيقة التي تحتاج لتكثيف وتضافر كل الجهود من أجل إعادة عجلة الإنتاج للدوران. ورغم أن اللجوء لأسلوب الإضراب يظل أحد الأساليب السلمية المشروعة في حد ذاته إلا أن ما شهدته مصر اليوم في ربوعها المختلفة من انتظام في الحركة المعتادة جاء كأحدث تجسيد على وعى شعب مصر الذي يختزن بفطرته حكمة آلاف السنين والتي تجعله يغلب مصلحة الوطن والمواطن على كل ما عداها.
وبشكل عام فقد مضى اليوم ربما دون أن يشعر أحد بأن هناك إضرابا بل أن العاملين في العديد من الوزارات والمؤسسات لم يكتفوا بعدم الاستجابة لدعوة الإضراب ومن ثم العصيان ، بل أنهم مكثوا في مجال عملهم مدة تزيد من مدة عملهم المعتادة كنوع من التأكيد على رفضهم أن يكونوا جزءا من محاولات البعض في الداخل والخارج التي ترمي لإنهاك الوطن والمواطن والاقتصاد.
ولم يقتصر انتظام العمل ورفض المشاركة في الإضراب على الوزارات والجهات الحكومية بل أمتد ليشمل الغالبة العظمى من النقابات واتحادات العمال مصر التي ينطوي تحتها الملايين من عمال مصر وكذلك القطاع الخاص ممثلا في غرف التجارة والصناعة.
وقد تجسدت اليوم على أرض الواقع مواقف كبرى الأحزاب والقوى السياسية التي أعلنت منذ اللحظة الأولى رفضها التام لدعوات الإضراب والعصيان وهو الموقف الذي عبرت عنه أحزاب التيار الإسلامي المختلفة وفى مقدمتها أحزاب الحرية والعدالة والنور جنبا إلى جنب مع العديد من الأحزاب الليبرالية الرئيسية وفى مقدمتها حزب الوفد ، كذلك فقد أكد حزب الوسط اليوم أن مثل هذه الأساليب الاحتجاجية الحادة إنما تلحق ضررا كبيرا لا مبرر له بمصالح المواطنين .
كما وصف حزب مصر القومي أن اللجوء لمثل هذه الأساليب لا يؤدى إلا لمزيد من التدهور في أحوالنا الاقتصادية فضلا أنه يعطى فرصة للأطراف خارجية التي تسعى لإثارة الفوضى في مصر والعمل على تقويض اقتصاد البلاد .
فيما اعتبر أكمل قرطام رئيس حزب المحافظين أن العصيان المدني الذي يدعو له البعض إنما يسيء لوضع مصر الاقتصادي ولصورتها في الخارج خاصة بدون مبرر بعد أن تم تحديد جدول زمني لانتقال الحكم إلى سلطة مدنية مع شهور معدودة ، مشيرا إلى أن حق التظاهر والاعتصام مكفول في ميدان التحرير والميادين الأخرى دون أن يتحول الأمر إلى إضراب وعصيان يلحق أكبر الضرر بالوطن ويثير الفتنة.
من جانبه ، اعتبر طارق زيدان رئيس حزب الثورة المصرية أن الدعوة لمثل هذا الإضراب أو العصيان المدني إنما تسيء إلى ثورة 25 يناير وترسخ فكرة أن شباب الثورة يقودون البلاد إلى الخراب .
وفى الوقت نفسه، أبدى العديد من نواب مجلس الشورى الجدد - في تصريحات لهم اليوم - رفضهم لدعوات العصيان المدني على النحو الذي جسده تصريح النائب سيد مرسى الذي قال إن مصر تمر بمرحلة بناء تحتاج فيها لسواعد كل أبنائها وليس للإضرابات والعصيان الذي يؤدي إلى هدم مصر.
وكان الأزهر الشريف ودار الإفتاء المصرية قد أكدا على عدم شرعية اللجوء لمثل هذا العصيان المدني الذي يلحق أكبر الضرر بأمن الوطن والمواطن ويثير الفتن في وقت تحتاج فيه البلاد إلى تضافر الجهود لعبور هذه المرحلة الانتقالية الحرجة بسلام وهو نفس الموقف الذي أبدته الكنيسة المصرية ورجال الدين المسيحي.
وعلى أرض الواقع فإن تجاهل دعوة الإضراب كان ملموسا تماما اليوم في كافة قطاعات الخدمات والمرافق حيث انتظم العمل في كافة قطاعات النقل البرى والبحري و الجوى والسكك الحديدية ومترو الإنفاق بل وحتى سيارات السرفيس إضافة إلى استمرار العمل بشكل طبيعي في قناة السويس، بل أن عمال ترسانة بورسعيد استمروا في العمل اليوم لمدة ساعتين إضافيتين بدون أجر في مبادرة شخصية من جانبهم .
وهو نفس ما جرى في موانئ مصر البحرية وعلى مستوى المرافق والخدمات في محافظتي القاهرة والجيزة وكافة محافظات مصر فقد استمر العمل بشكل منتظم .
أما في ميدان التحرير نفسه والذي يعد رمزا لثورة يناير المجيدة فقد كان مكانا لحلقات نقاشية بين المئات المتواجدين بالميدان حول جدوى الإضراب والعصيان ، حيث اعتبر المؤيدون للإضراب انه الطريق الوحيد للضغط على المجلس العسكري لتسليم البلاد لسلطة مدنية منتخبة .
فيما يرى الرافضون لأسلوب الإضراب والعصيان أن اللجوء لمثل هذه الأساليب لن يزيد الوضع الاقتصادي إلا سوءا في وقت يشهد فيه الوضع الاقتصادي ما يكفى من الأزمات والمشاكل.
وتعتزم عدة حركات سياسية تنظيم مسيرات مساء اليوم إلى ميدان التحرير بمناسبة مرور عام على سقوط النظام السابق ومع استمرار حركة مرور السيارات في الميدان فقد ساد الهدوء كذلك في المنطقة المحيطة بوزارة الداخلية بوسط القاهرة ، حيث شهدت المنطقة حركة طبيعية للغاية للمشاة.
وعلى الرغم من تجاهل المصريين في عمومهم لدعوات الإضراب والعصيان المدني، غير أن ذلك لا يمس من قريب أو من بعيد أساليب التعبير الحر التي باتت متاحة لأبناء الشعب المصري منذ اليوم الأول لنجاح ثورة يناير ، حيث إن هذا الموقف شبه الجماعي لم يكن إلا بمثابة رد فعل فطرى لا يتعارض مع حق الشعب المكفول قانونيا ودستوريا في اللجوء إلى أساليب التعبير السلمية والتي انتزعها المصريون بعد الثورة طالما كانت لا تلحق ضررا بمصلحة الوطن والمواطن.