وفي اليوم الثالث من عمر الثورة بدأنا نتقدم من خلال الشوارع الالتفافية والحواري نحو الميادين الرئيسية في قلب القاهرة والمحافظات ،وبدأت الفضائيات تلعب دورها في تهيئة الأجواء أمامنا لكي نواصل ثورتنا،والحق أحق ان يقال ،فأن تلك الفضائيات ساهمت بدور كبير في حمايتنا وقتها ،حمايتنا من أعمال بطش كان من الممكن ان تكون تداعياتها في غاية الخطورة . وبدأت قوات الأمن تضرب الشباب بلا هوادة وبلا رحمة وفي سويداء القلب ،وبدأ الشهداء والجرحى يتساقطون هنا وهناك،وكلما سمعنا بسقوط ابنا لنا أو بنتا أو أخا جريحا او شهيدا ً، اشتعلت ثورتنا وتفاقم سعيرها ،وظل أولادنا ما بين كر وفر طوال اليوم بحواري وشوارع مناطق وسط القاهرة ،وبدأ نظام الحكم يشعر بالخطر عندما تخطينا يوم 26 ودخلنا الي يوم جمعة الغضب ،فلقد كان هدفنا خلال الثلاثة أيام الأولي من عمر الثورة العودة مرة أخري لميدان التحرير ،من اجل اتخاذه مرتكزا وملاذا للثوار والثورة . وكان قادة وزارة الداخلية ،وجهاز الأمن المركزي، ومباحث امن الدولة، ومديرية امن القاهرة ،كان قادة تلك الجهات يعرفون ان ميدان التحرير هدفنا وغايتنا ،ولذلك سدوا الطرق المؤدية إلي هذا الميدان وأغلقوا الكباري ،ونفس الإستراتيجية اتبعوها علي مستوي المحافظات . وكانت قوات الأمن وجنود الشرطة قد بدأ الإرهاق والإعياء يظهران علي عناصرها ،واستغلينا ذلك كثوار منا شباب كثر وتدفقنا يوم بعد ظهر جمعة الغضب بأعداد ضخمة عبر الطرق المؤدية الي ميدان التحرير،غير عابئين بقنابل الغاز والدخان والعصي المكهربة ،وكُنا نستخدم زجاجات المياه الغازية في غسيل وجوهنا وأعيننا للتخفيف من آثار قنابل الغاز الخطيرة،حيث أعطتنا الأنباء الواردة من مدينة السويس بمقتل ومصرع وجرح العشرات من الثوار أعطتنا قوة إرادة حديدية من اجل انتصار الثورة . وكانت قوات الجنرال حبيب العادلي تستخدم كل ما اتيح لها من وسائل لفض التظاهرات ،بداية من الأسلحة المحشوة بأنواع مختلفة من الرصاص الحي ،وفتح المياه علي المتظاهرين في عز البرد القارص ،واستمر فتح خراطيم المياه حتي في الوقت الذي كُنا كثوار فيه نؤدي صلاة العشاء،حيث لم تراع قوات الأمن آية حرمة للواقفين بين يدي الله ،ولا لكلام الله الذي يتلي خلال الصلاة إنما أمطرتهم بوابل متدفق من خراطيم المياه . وعندما وجدت قوات الأمن المتظاهرين لا يعبئون بما تفعل ،بدأت تدهس الجماهير الثائرة تحت عجلات العربات والمصفحات والدبابات ،وبدأت الدماء تتدفق غزيرة وسحابات الدخان تغطي سماء القاهرة ،ومئات الآلاف باتوا في شوارع القاهرة بخلاف المحافظات ،ولقد نفذت الذخيرة ونفذت قنابل الدخان والغاز ،وأرهقت عناصر الشرطة ،وأخفقت تماما في التصدي لتلك التظاهرات والمحاولات الرامية للوصول الي ميدان التحرير . كان الشباب منا ينطلقون من بيننا مثل الرمح، ويمتطون مصفحات الأمن المركزي ويفجرونها بقنابل المولوتوف، ويحرقون السيارات والعربات المستخدمة في العدوان علينا ،وكُنا نعتبر تلك العربات مراكز للظلم والطغيان،ومن هنا اعتبرناها كثوار هدفا مشروعا لنا ، حيث قامت عناصر بيننا بإضرام النيران فيها،وغطت سحابات الدخان علي منطقة وسط القاهرة . وذلك في وقت كانت فيه كلا من قوات الأمن المركزي والشرطة تغادران منطقة وسط العاصمة المصرية مسخنة بالجراح ومهزومة،وتنسحب تماما من مواجهة الثوار تاركة المجال لهم للوصول الي ميدان التحرير،وهناك تجمع مئات آلاف بقلب هذا الميدان معلنين انهيار جهاز الشرطة المصرية .
وفي نهاية جمعة الغضب كانت مخلفات قوات الشرطة والأمن المركزي من ناقلات جنود وعربات ومصفحات ،متناثرة علي جوانب الطرق وفي أماكن المواجهات،وكانت دماء الثوار تلطخ أسفلت مواقع المواجهات ،وكانت في تناثرها وطريقة تدميرها ،تخلق مسرحاً يشبه في تفاصيله ميدان القتال . وهنا بدأنا نلاحظ قدوم سيارات الجيش ،وقابلناها بدون وعي بالتصفيق والهتاف ،إلا إننا فوجئنا انها قوات حرس جمهوري جاءت محملة بالذخيرة وقنابل الغاز لدعم قوات الشرطة التي غادرت الميدان ،فأشتبك معها المتظاهرون واجبروها علي الفرار،حتي وردت إلينا سيارات الجيش ،وابلغنا ضباطها أنهم جاءوا من اجل حماية أبناء الشعب ،ساعتها بدأنا نكتب علي دبابات الجيش ومصفحاته شعاراتنا الثورية "مثل يسقط مبارك" و"الجيش والشعب يد واحدة "،بل وامتطينا ظهور الدبابات والمدرعات والمركبات التابعة للجيش ،وبدأنا نردد تلك الهتافات .
وهنا بدأت يوم 29يناير الآمال تراودنا بقرب سقوط حكم مبارك وتلوح لنا في الأفق ،لاسيما وان نظام مبارك بدأ يقدم تنازلات ،ويريد ان يضع حدا للتظاهرات بأي شكل ،وكان من يكتب إليكم يبات ليلا مع الثوار في قلب ميدان التحرير مع أعداد كبيرة من الصحفيين ،ونحاول دعم الثورة والثوار بوسائلنا الخاصة ،ونتنقل ما بين نقابة الصحفيين الواقعة الي جانب الميدان وبين الميدان ذاته ،ومنذ يو30يناير بدأنا نتلقي اتصالات من أُسرنا ومضمونها ان لصوص ينتشرون في كل مكان ،وانهم يخافون ،وان لجان شعبية بدأت تنزل الشوارع للحفاظ علي الامن، ويتعين علينا ان نعود لمنازلنا لهذا الغرض،وكم من زميل تلقي اتصالا من زوجته وهي تبكي علي التليفون لكي يعود من الميدان لمنزله . وكانت عناصر امنية تتصل بالناشطين وأسرهم في المنازل مهددة إياهم بعدم الخروج الي تلك التظاهرات ،وكان اللصوص هم رجال وزارة الداخلية ومخبريها وعسسها ينشرون الرعب ليلا في مختلف أرجاء مصر ،بعد ان قطع النظام الاتصالات التليفونية وقطع الانترنت ،وجعل السلع والمواد الغذائية تشح من القاهرة،للضغط علينا كثوار. وزاد الطين بله ،انه تم ترك البلد بلا امن علي الإطلاق،بيد ان تلك الضغوطات التي تمارس ضدنا كانت تزيدنا ثباتا ،وكانت تزيدنا صمودا ،وروح الله بثت فينا كثوار فأعطتنا قوة لاحدود لها ،وكنا ننام امام الدبابات والمصفحات لسد الطريق أمامها عندما كنا نشك في إمكانية اقتحامها للميدان ،علي الرغم من تطمينات القوات المسلحة لنا ،تلك التطمينات التي استمرت علي مدار ايام الثورة ،عبر بيانات تبث من خلال التليفزيون تارة ،وعبر البيانات الورقية التي توزع علينا تارة أخري . وهؤلاء المجرمين المنتميين الي تنظيم سري أقامه حبيب العادلي داخل وزارة الداخلية لم يقتصر دورهم علي بث الخوف بنفوس الشعب ،انما اقتحموا السجون والمعتقلات وأماكن الاحتجاز ،وبعد ارتكابهم مجازر دموية قاموا بإطلاق سراح المسجلين خطر والمساجين المحكوم عليهم بقضايا جنائية وقتلوا عشرات الضباط والجنود،ولا تزال مصر تعاني حتي الآن جراء إطلاق سراح المجرمين. ونواصل