هل يحملون سوى معاولهم ..معاولهم التي يهدمون بها مدن اليأس والقمع والتنكيل بالعقول والطيور والزهور ..ليقيموا ممالك الشعوب على أعمدة العدل، تحت ظل الحب، يزرعون الجمال ،لنحصد جميعنا الخير، والشمس الذهبية . هل يملكون سوى ثمانية وعشرين حرفا، يشكلون بها مدنا فاضلة على أنقاض المدن، التي شيدها الطاغية بأسلاك شائكة، وعلق على جدرانها كماشات، وسياط، وعيون مفقئوة، وأسنان مقلوعة .
هل يملكون سوى ملايين اللوحات، التي تكشف كم هي حقارات الظلم، والجوع ،والغربة على فراش الوطن .
هل يملكون سوى ألاف النغمات، والقوافي، التي تأبى أن تعلو فوقها موسيقى الجنازات، التى يعزفها الطغاة لتشييع الحرية .
لا يملك الشعراء سوى هذه الآدوات، التي رغم بساطتها، وهوانها على الحكام ،إلا أنها يوما بعد يوم، مهدت الطرقات للرياح، لتدفع عربة الطغاة ، خارج الإطار، ويظل في الصورة، الثائرون في كل حدب وصوب ،يحملون لافتات يستنهضون بها الهمم، و يبددون بها ظلمة الظلم والهوان ..لافتات مجللة بأبيات صدح بها الشعراء، من فوق مآذن الحرية، ودقوا بحروفها أجراس المدينة، ليستيقظ الجميع للصلاة في عيد الوطن .
فعل هذا "الماغوط" في دمشق، التي وصفها بأنها عربة السبايا الوردية، وتحدى طاغيتها، زاعقا في وجهه " ضع قدمك الحجرية فوق صدري يا سيدي \ فالجريمة تضرب باب القفص \ والخوف يصدح كالكروان \ ها هي عربة الطاغية تدفعها الرياح \ وها نحن نتقدم ..كالسيف الذي يخترق الجمجمه" .
وفعلها "البردوني" في اليمن، الذي أخاله يدق أبواب مدن صنعاء ،وعدن، وتعز كل صباح، ليشد على أيدي أهلها ، محذرا إياهم من إخماد نير ثورتهم ضد الطاغية الذي وصفه بالمستعمر السري " فظيع جهل ما يجري \ وأفظع منه أن تدري \ يمانيون في المنفى \ ومنفيون في اليمن \ جنوبيون في (صنعاء) \ شماليون في (عدن ) \ وكالأعمام والأخوال \ في الإصرار والوهن \ خطى(أكتوبر) انقلبت \ حزيرانية الكفن \ ترقّى العار من بيع \ إلى بيع بلا ثمن \ ومن مستعمر غاز \ إلى مستعمر وطني \ لماذا نحن يا مربى \ ويا منفى بلا سكن \ بلا حلم بلا ذكرى \ بلا سلوى بلا حزن" .
وها هو أبو القاسم الشابي، يرسل رسالته الخالدة للطغاة، الذين توهموا أن لا صوت يعلو فوق صوت رصاصهم في الميادين التي بين ليلة وضحاها أزهرت بالياسمين ..أراه يشير في وجوهم بعلامة النصر وقبل ان يدير لهم ظهره ينطق حكمته الجليلة علها تلقى صدى لدى كل من تسول له أوهامه أن يسلك مسلكهكم "إذا الشعب يوما أراد الحياة \ فلابد ان يستجيب القدر \ ولابد للقيد أن ينكسر \ ولابد لليل أن ينجلي "
كذلك أبت روح أمل دنقل أن لا تعاتب كل المتدثرين بالخوف أمام شاشة التلفاز يشاهدون بأفواه مفغورة ،عناقيد الفل مدرجة بالدماء في كل ميادين مصر "قلت لكم مرارا \ أن الرصاصة التي ندفع فيها.. ثمن الكسرة والدواء : \ لا تقتل الأعداء \ لكنها تقتلنا ..إذا رفعنا صوتنا جهارا \ تقتلنا ، وتقتل الصغارا !"
هل كان يملك أمل والشابي والبردوني والماغوط وغيرهم من الشعراء الحقيقيين سوى النبوءة وسخاء الموهبة وعظمة التثوير ضد القبح بكل ما فيه من معنى !