المؤلف: قضيت سنة ونصف في زيارة الأماكن العشوائية للكتابة عن الرواية الضبع: أبطال الفقر هم أبطال الحياة الذين يصارعون قسوة الظروف الفقر أيام عبدالناصر كان كريماً عكس ما نراه الآن عائلة بسيطة ، ليس فيها ما يميزها عن مثيلاتها من العائلات الساكنة تحت خط الفقر، والعائشة على هامش الحياة، سوى تفاصيل إنسانية بالغة الشجن، تناولها الكاتب بلغة تتسم بالواقعية، ليُقدِّم للقارئ عالمًا خفيًّا لا يُدرك وجوده كثيرون رغم وضوحه الشديد، عبر رحلةٍ مقدَّسةٍ لعائلة ليست مقدسة، وإن كانت تكتسب نوعًا من القدسية تستمده من إيمانها بالقدر والمقسوم، والإصرار - رغم شظف العيش - على الوفاء برسالتها في عمران الأرض، وتقبُّل الحياة بشقائها وعذابها قبل بهجتها وسعادتها!. غاص الكاتب وتوغَّل فى أدق تفاصيل هذه العائلة التى تعيش حياة أشبه بالموت، راضية بالقليل الذى حازته، وباحثة طوال الوقت عن أسباب للرضا حتى عندما تفقد هذا القليل بقسوة وغلظة. يبدأ الكاتب روايته بوصف الرحلة التى تقطعها العائلة بقيادة الأم "عائشة" والتى تضطلع بدور مُسيِّر الحياة، ومحرِّك الأحداث، حتى لو كان بشكل خفى، يحفظ ل"رجل العائلة" حقه فى القيادة والقوامة، ومعها ابنها الصغير، الذى يروى حكاية الرحلة من بدايتها إلى نهايتها، بما فيها بدايته هو شخصيًّا؛ لنعرف أنه جاء رغم أنف أبيه. هكذا تروي رواية "رحلة العائلة غير المقدسة" للكاتب عمرو العادلي، حياة أناس بسطاء يدفعهم الفقر لالتقاط الطعام من القمامة. وعلى هامش حفل توقيع الرواية مساء أمس الذي استضافته الدار المصرية اللبنانية، قال الكاتب عمرو العادلي أنه زار أماكن عشوائية كثيرة ليستطيع الكتابة بهذه الدقة عن تلك الأماكن، قائلاً في تصريحات خاصة ل"محيط" أن الرواية أعدت للنشر ست مرات، وفي كل مرة يتراجع عن النشر، مما سمح للرواية بالنمو والتطور، وعلى مدار سنة ونصف زرت تلك الأماكن العشوائية منها الجبل الأصفر مرورا بالمرج والمطرية، وشارع التروللي، ومنطقة الخصوص، وأن الروائح والتفاصيل الصغيرة التي تصف المكان رغم أنها صادمة إلا أنه لم يكن من الممكن التخفف من هذه الروائح وهذه الأوصاف، حتى لا تفقد الرواية طعمها. أما عن الشخصيات فأوضح أنها مزيجاً من شخصيات عرفها بالفعل، قائلاً: استغللت بعض حكم أمي ونصائحها لي، ووضعتها في الرواية منها ما نبهتني إليه من ضرورة الانتباه للطريق مثل سائق العربة، قبل أن أعبر الشارع أنظر ثانية يميناً ويساراً، كما أنه عرف منها أن المرأة هي التي تُسير الحياة، بكل ما فيها. وقال رداً على سؤال "محيط" أن كتاباته تعكس أنه مسكون بهموم الوطن مثل روايته "الزيارة" والرواية التي بين أيدينا والتي تنتقد قسوة المجتمع، فقال أن رواية "رحلة العائلة غير المقدسة" لا تتحدث عن سلبيات المجتمع بقدر تحدثها عن إمكانية أن تعيش عائلة بهذه الظروف وتحيا بكرامة، فهو يكتب عن نصف الكوب الممتلئ في مواجهة الآخر الفارغ، يكتب ليس من أجل انتقاد الواقع وقسوة الظروف كما يقول، بل من أجل استخراج الجمال من قلب القبح، وأنه يمكننا العيش بداخله دون أن نفقد الحياة. وعن شخصية "الجد" في الرواية، قال العادلي مواصلاً حديثه لنا أن شخصية الجد كانت هي بطل الرواية في البداية، وشخصية الأم "عائشة" كانت مساحتها في الرواية هي مساحة شخصية الجد، لكنني بعد التأمل وجدت أن هناك عائلات كثيرة يرعاها الجد أو العم، ولا جديد هنا، أما أن ترعى المرأة شئون الأسرة بهذه الشجاعة فهو أمر لم يكتب عنه كثيراً، رغم واقعيته فالمراة فعلا هي التي تسير الحياة. وفي حفل التوقيع، أشاد الناشر محمد رشاد برواية "رحلة العائلة غير المقدسة" للكاتب عمرو العادلي، ووصفها بأنها "رواية جوائز"، لأنها شديدة الواقعية، تتحدث عن أسرة تحت خط الفقر، ولكن يغلب عليها الرضا بما هو مقسوم لها، كما أنها تتميز بسرديتها الناضجة، وواقعيتها الشديدة. يواصل رشاد: كلما قرأت صفحة حمدت الله على معيشتنا، فهناك أناس لا يزالون يبحثون عن الطعام في القمامة، قائلاً: تمنيت لو أن المخرجين العظيمين كمال الشيخ، أوعاطف الطيب على قيد الحياة لإخراج هذه الرواية وتقديمها للسينما فقد برعا في تصوير الواقعية، والرواية تنبهنا لهؤلاء المظلومون في المجتمع. وقال الناقد الدكتور محمود الضبع في إطار ندوة لمناقشة الرواية، الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية، بحضور الكتاب والمبدعين مكاوي سعيد، وصبحي موسى، وأحمد الشهاوي وغيرهم: الرواية صنعت صدى من خلال عائلة تبدو في ظاهرها بسيطة، لكنها تمثل بطولة ناتجة من أنها قادرة على أن تستمر في الحياة، مشيرًا إلى أن منجزها في الحياة هو الصراع من أجل البقاء. ويواصل الضبع: هذه الرواية هي العمل الأول الذي اقرأه للعادلي، ومع ذلك وجدت نفسي مشدودا له، دعوني أعترف أن هناك كتاب كبار لا استطيع أن أكمل قراءة رواياتهم، وما جذبني لهذه الرواية هو طرح الكاتب عنوان صادم، وهو "رحلة العائلة غير المقدسة"، حيث شكك الضبع في رحلة العائلة المقدسة نفسها، لأنها قائمة على شخصية أقرها الانجيل، ورفضها القرآن وهي شخصية يوسف النجار، مؤكداً أن هذه الرحلة على المستوى التاريخي بها شك، لذلك جذبني العنوان – يواصل الضبع - مَن هنا غير المقدس في الرواية؛ الرحلة أم العائلة؟، يظل السؤال عالقا حتى اللحظة الأخيرة. الرحلة هنا تتحول إلى غير مقدسة مع العائلة، ويظل سؤال التقديس ماثلا غير مجاب عنه حتى النهاية، ويترك للمتلقي كل حسب ثقافته ليطرح رؤيته. ويشير الناقد محمود الضبع إلى أن المدنس هنا هي الظروف المسئولة والحكومات التي تتخلى عن شعوبها، الحكومات التي تعاقبت على مصر منذ عهد الملك فاروق، وعملت على إفقار الفقراء بشكل كبير، وإثراء الأغنياء بشكل أعمق. وأكد أن العائلة تبدو في ظاهرها بسيطة لكنها تمثل بطولة، منجزها في الحياة أنها تستطيع أن تحيا يوما جديدا. أيضاً أشار إلى أن الرواية تصنع نموذجاً آخر للبطولة، وهي المرأة التي تساهم في استمرار الأسرة، تعتمد في طعامها الأساسي على ما تستخرجه من القمامة، الأشياء التي تتقن كيف تتحسسها حتى تخرج منها ما يصلح للأكل، نصف تفاحة، جزء من رغيف، وهنا يبرز المؤلف جماليات القبح، ليجعلنا نشتم رائحة عفونة حقيقية تفوح من الرواية. يتوقف الناقد كذلك عند مشهد الطفل الذي يلعب الكرة فتقع منه في الصرف الصحي، ثم يصارع الولد للنزول إلى المصرف، حتى يستخرج الكرة، وهو مشهد في جوهره يمثل صراعاً من أجل الحياة، وكأنه يصارع القبح لينفرد بالحياة. مشهد آخر يجذب نظره، هو حين جاد القدر على الأسرة بلفافة لحم، تحسستها الأم بقدمها لتتأكد من أنها صالحة، وبالفعل التقطتها وتم طهوها برائحة جيدة. وتصف الرواية "مباني السوايسة" التي تعيش بها الأسرة، فهي "تبدو من بعيد كذيل كلب، معوجة وتمشي مع شط الرشّاح أينما ذهب، أراها من أول الشارع كفم ثعبان خرافي يتثاءب". فالمباني تعتمد على مواسير صرف صحي، من المفترض أن يتم توصيلها، لكن هذا لم يحدث، فأصبحت مكاناً للمخلفات، واحترف السكان الدخول لهذه المواسير والتنقيب فيها عمّا يقيم أودهم. يشير الضبع إلى أن أبطال الفقر هنا، هم أبطال الحياة، وهذه الشرائح التي تتحدث عنها الرواية نراها دوما، لكن الفقر في وقت حكم الرئيس جمال عبدالناصر، كان كريماً، أما الآن الفقر يحوطنا فكل حي في القاهرة له ظهير في الفقر، لكنه غير كريم. يواصل: هذه الكتابة تلتقط ما اسميه "بالخطر الأسود" المحدق بنا في كل لحظة، الفقر ضد التنمية والتقدم وهو الذي يخسف بالبلاد الأرض، واذا لم يعالج سنعود للوراء، لأن ما يمكن أن تصنعه الدولة من منجز يلتهمه الفقر الذي يجعل الانسات يفعل اي شئ لنفسه، وتصبح الحياة عنده ليست وطناً، بل مجرد أنفاس. الأسرة التي تتحدث عنها الرواية، تتكون من أب دوره سلبي، والأم "عائشة" وهي عماد الأسرة، والجد طلبة، وثلاثة أبناء الأصغر هو الرواي، والأكبر" فتحي" يتوسطهما "أنس" الذي توقف نموه عند عامين، نتيجة شلل او ممارسات سيئة للأم في مرحلة الحمل، أصبح أنس لا يستطيع قضاء حاجته، وتتكفل الأم به تماماً في كل شئون حياته، ليصبح بينمها لغة حوار خاصة قوامها ليست الألفاظ ولا الكلمات، بل الإحساس، وترافقه "قطة" لا تتخلى عن جواره أبداً. أثنى الناقد على التكثيف الدلالي للغة الكاتب، الأمر الذي جعل اللغة واصفة بدقة، حيث استطاع أن يوصل في لقطات مكثفة ما يريده، الفصول قصيرة وكأنها قطع سينمائي متوازي، وكان دوماً يعلمنا الكاتب أنه في وسط القبح قد نجد مبتدءاً للجمال. وهاجم الضبع في ختام كلمته ظاهرة "الأكثر مبيعاً" قائلاً أنها تجارة اخترعتها دور النشر، وكثير منها لا يرقى لأن يوضع في هذا المكان. وأكد عمرو العادلي بكلمته في حفل التوقيع، أن الأسرة تنتقل من مكان لآخر في الرواية، مشيداً بشخصية "أنس" الطفل المعاق الذي يتمنى الكاتب أن يفرد له رواية وحده، فهو يتحدث لغة الصدق التي لا يجيدها أكثرنا، مؤكداً أن تفاصيل الرواية تدلل على العزة في مقابل الفقر، وأن الإنسان قد تحيطه الظروف القاسية لكنه يستطيع أن يرفع رأسه في وجهها.