من قديم الأزل وتعد الإسكندرية منارة حضارية مهمة ومركزا علميا متميزا، وكانت محطا للوافدين والغازين ومقصدا للفاتحين على مر العصور من كافة الأمم وخصوصا للوافدين من الغرب سواء أكان الغرب الأعجمي من أوروبا أم العربي من بلاد المغرب العربي وبالذات بعد سقوط الأندلس العربية. خضعت قديما لحكم الإغريق ثم الرومان وفي فترة البطالمة نشطت الحركة العلمية والأدبية في الإسكندرية، وبرز شعراء وأدباء وفلاسفة وعلماء، حتى إنه نشأت مدرسة علمية معرفية أدبية لها سماتها المميزة التي سميت باسم "مدرسة الإسكندرية" وكان لها أثرها الكبير في الفكر الإنساني قديما وامتدت آثارها إلى الحاضر. ويركز د. عبدالله رمضان، أستاذ الأدب بكلية دار العلوم، في ورقته التي قدمها لمؤتمر "الأندلس في الإسكندرية" على نموذج مقارن لأديبين بارزين ؛ الأول هو المتصوف الأندلسي أبو الحسن الششتري والذي قدم للإسكندرية واستقر برحابها ، والآخر الشاعر الإغريقي كاليماخوس والذي استقر بدوره بالمدينة حاضنة الثقافات.. فكيف جسد كلاهما عبقرية الأدب المهاجر ؟ المؤتمر اختتم ديسمبر الماضي أعماله بمكتبة الإسكندرية، وقد أقامته جامعة الإسكندرية بالتعاون مع القنصلية الإسبانية ومركز دراسات الخطاب، بحضور باحثين بارزين حول العالم . وخلال ورقته، يرى د. عبدالله أن عناصر التشابه بين كلا المبدعين متعددة، فضلا عن بعض إشارات التشابه بين حياتيهما؛ وسعي كل منهما إلى أن يعبر إبداعه عن رؤاه وتجاربه في أرض الهجرة والتطلع إلى التميز والتمايز، وهو ما وفق إليه كل منهما إلى حد كبير، فمثَّلا علامة فارقة في الإبداع الشعري، كاليماخوس في ارتقائه بفن الإبيجراما، والششتري في إدخال الزجل إلى التصوف على نحو جعل مفاهيمه قريبة من الجمهور. رحلة الششتري أبو الحسن الششتري، "علي بن عبد الله النميري الششتري عروس الفقراء، وأمير المتجرّدين، وبركة الأندلس، لابس العباءة الخرقة " من أعلام التصوف الفلسفي، كان من أهل الثراء والجاه وآثر حياة الفقر و"التجرد للعبادات، وصنف الكتب الكثيرة في التصوف" . وهو "أندلسي المولد والمنشأ" ويقال إنه "كان من الأمراء وأولاد الأمراء" ، اشتهر بأشعاره الصوفية التي جرت على الألسنة وغناها المنشدون والمغنون على مر القرون حتى العصر الحاضر" ووردت آثار عدة عن أماكن تنقل إليها فزار الإسكندرية ومناطق عدة في مصر، والشام، ومكة والمدينة، وغيرها من بلدان الله، وفي الأندلس نزل عدة مدن ومناطق ومنها غرناطة. ومن مؤلفاته رحمه الله: "ديوَان شعره، الرسَالَة العلمية، الرسَالَة القدسية فِي تَوْحِيد الْعَامَّة والخاصة، العروة الوثقى فِي بَيَان السّنَن وإحصاء الْعُلُوم، المقاليد الوجودية فِي أسرار الصُّوفِيَّة، وَغير ذَلِك" توفي وهو راجع من الحج "بدمياط سنة 668 ثَمَان وَسِتِّينَ وسِتمِائَة" ، وقد أوردوا في ذلك قصة وهو أنه عندما وصل "من الشام إلى ساحل دمياط وهو مريض مرض موته نزل قرية بساحل البحر الرومي فقال: ما اسم هذه القرية فقيل: الطينة، فقال: حنّت الطينة إلى الطينة، وأوصى أن يدفن بمقبرة دمياط . رحلة كاليماخوس لا توجد معلومات كثيرة عن كاليماخوس القوريني، وربما يرجع ذلك إلى أن "الشاعر بوصفه من رجالات الأدب قلما يتحدث عن نفسه، بل تظهر في أعماله فقط الأحداث المميزة" ، ويقال إن والده باتوس Battos من سلالة ملوك برقة درس في صباه على يد الفيلسوف براكسيفانيس ثم هاجر إلى الإسكندرية تمكن من جذب نظر الملك فيلادلفوس الذي ضمه إلى بلاطه حوالي عام 276 ق.م؛ حيث تربع بعدها على إمارة الشعر وظل يحتل المكانة الأولى بين شعراء عصره حتى مات عام 240 ق.م . ألف كاليماخوس أعمالا بالغة الكثرة، فمعجم سويداس ينسب إليه أكثر من 800 عمل" أهمها الأناشيد التي امتدح بها آلهة الإغريق آنذاك، وأكثر هذه الأعمال ذيوعا إبيجراماته. وتراوحت أعماله الإبداعية بين الشعر والنثر، وكان كاليماخوس بمثابة أستاذ للعديد من الأجيال التالية من الشعراء والمبدعين، وسار في طريق الإيجاز إلى حد كبير والذي كتبه من أعمال مطولة جانب منها كان بمثابة رد على كتاب الملاحم ممن اتهموه بالعجز عن كتابتها. لكن يهمنا أن كاليماخوس كان له فضل كبير في تمايز مدرسة الإسكندرية الإبداعية، حتى عده البعض "المنشئ الحقيقي لمدرسة الإسكندرية الشعرية" وكان موسوعيا ربما لطبيعته النهمة للمعرفة ولطبيعة المناصب الثقافية الرفيعة التي تقلدها، فقد كان "النحوي المتميز، الناقد الذي لا يضارع في عصره بين الششتري وكاليماخوس في ورقته، يمزج عبدالله رمضان بين كل من الششتري وكاليماخوس حيث خاطبا الجماهير، نزلا من الأبراج العاجية إلى الشارع، قربا المفاهيم إلى العوام. ويؤكد د. عبدالله رمضان أن سيرة حياة الششتري تجلي بوضوح كيف كان صاحب دعوة ولم يكن مجرد صاحب تجربة متصوفة منكفئة على الذات ، فهو "جاء من الأندلس، وطاف أقطار المشرق، داعيا إلى طريقته الصوفية عن طريق نظم الموشحات والأزجال العامية التي انتشرت بين الناس" وكشأن أي دعوة جديدة لمنهج أو طريقة سياسية أو دينية وجد الششتري نفسه محاطا بالمحاربين، وكان جلهم من الفقهاء، منهم من حاربه هوى أو جهلا أو عن موقف مسبق من كل ما هو تصوف، أو بحسبانه على طريقة ابن سبعين التي كانت مصنفة ضمن الشذوذات العقدية، وفي كل الحالات فإن انتشار أشعاره وموشحاته وأزجاله الصوفية "مما دعا الفقهاء إلى محاربة شعره" ، ومن ذلك ما أورده الشيخ زروق في عدة المريد: "وقد حذر الناصحون من تلبيس ابن الجوزي، بل ومن مواضع في مواعظه، وفتوحات الحاتمي، وتائية ابن الفارض بل كل قصائده، وأزجال الششتري" وقد ذهب محقق ديوان الششتري إلى تفسير تراوح شعر الششتري بين لهجتي المشرق والمغرب قائلا: "الششتري قضى فترة طويلة من حياته في المشرق. وقد دفعته عبقريته إلى أن يتكلم في لهجة أقرب إلى الفصحى، سواء في المغرب أو في المشرق، مع تضمينها خصائص من لهجة القوم الذي يعيش بينهم، فغلبت نزعة أندلسية على أشعاره في المغرب؛ وبدوية إبان مقامه في طرابلس، ومشرقية مصرية أحيانا وشامية أحيانا أخرى خلال إقامته أو جولاته بمصر والشام" ولم يتوقف أثر الششتري الإبداعي على العامة والمريدين بل تجاوز ذلك إلى الخاصة والمبدعين، فها هو ابن خلدون في معرض ذكره للوزير أبي عبد الله بن الخطيب وبعد وصفه بأنه "إمام النظم والنثر في الملّة الإسلاميّة غير مدافع" يقول: "ومن قوله على طريقة الصوفيّة وينحو منحى الششتري منهم: بين طلوع وبين نزول ** اختلطت الغزول ومضى من لم يكن ** وبقي من لم يزول" فالششتري أرسى مدرسة في الإبداع الصوفي بدا أثرها على العديد من الشعراء، والخاصة من أهل الإبداع ومتذوقيه. أما كاليماخوس فإن كان معروفا في روما منذ أيام إنيوس ولكن الذي عرف الرومان تعريفا ممتازا بهذا الشاعر السكندري هو بارثينيوس من نيكايا، الشاعر الإغريقي الذي أسر في الحرب الثالثة مع ميتريداتيس وأرسل إلى إيطاليا عام 73 ق.م وهناك تم عتقه بسبب علمه وفنه، ومارس تأثيرا ضخما على الشعراء المجددين. كان كاليماخوس "يستمتع بقلب البناء الطبيعي للجملة"، وكذلك "استفاد من دراسته لروائع الأساتذة الأقدمين، ونجح في أن يكتسب شيئا من بساطتهم وتعبيرهم المباشر" من التصوف .. للإبيجراما يربط صاحب الدراسة د. عبدالله رمضان بين المبدعين من حيث كتاباتهما الحداثية المنتصرة للتغيير والثورة على القديم ؛ ويعد الدكتور علي سامي النشار محقق ديوان الششتري – يعده "أول من استخدم الزجل في التصوف، كما كان محيي الدين بن عربي أول من استخدم الموشح فيه، وللرجلين فضل السبق في هذا المضمار. والمديح انتشر على نحو كبير في المشرق إبان عصر الششتري، ويبدو أن الأحوال السياسية وما صاحبها من انحدار وتراجع واحتلال غربي لبعض البلدان الإسلامية آنذاك ألجأ المتصوفة والبسطاء إلى السماء طلبا للعون والغوث وربما هروبا من المآسي المحيطة، فقد "غلب على شعر المتصوفة الذين كثر عددهم في عصر الحروب الصليبية وازدحمت بهم التكايا والزوايا هذا الطابع. على الجانب الآخر فإن لكاليماخوس فضلا كبيرا في تطوير الإبيجراما وكذلك في ذيوع الأعمال القصيرة ومزاحمتها للأعمال الطويلة مما كان يمثل نوعا من أنواع الثورة على القديم، . يقول الششتري : ترَكْنا حُظُوظا من حضيض لحُوظِنا مع المقصد الأقصى إِلى المطلب الأسنى ولم نُلف كُنْه الكَوْن إِلا تَوهُّماً وليْس بشيءٍ ثابِت هكذا الفيْنا فرفْضُ السِّوى فرْضٌ علينا لأنَّنا بِملَّةِ محوِ الشركِ والشَّكِّ قد دنَّا ولكِنّه كيف السَّبيلُ لرَفضِهِ ورافِضُه المرفوضُ نحن وما كُنَّا فيَا قائِلاً بالوصْل والوقْفةِ التي حجِبت بها اسمعْ وارعوى مثل ما أبْنا تقيَّدْت بالأوهام لمَّا تداخَلتْ عليك ونورُ العَقْلِ أورثك السجْنا ويلاحظ د. عبدالله رمضان أنه الششتري تأثر بأعلام اليونان الخمسة : الهرامس، سقراط، أفلاطون، أرسطو وذو القرنين، وكأنه "اختزل الزمن للحد الذي يتعانق فيه الماضي مع الحاضر، ويمتد أثر فلاسفة اليونان لعالم التصوف، وهكذا كان كاليماخوس الذي كتب بإحدى إبيجراماته : "وداعًا أيتها الشمس، قالها كليومبروتوس الأمبراكى ، ثم ألقى بنفسه من فوق سورٍ عالٍ، وأودى بنفسه إلى العالم السفلى. وما عانى من سوء يدعوه إلى الانتحار، أجل، ولكنه طالع مؤلف أفلاطون عن (الروح)" أفلاطون في نص الششتري يشير إلى ذلك الطموح إلى المثالية والسعي إلى الانتقال إلى عالم آخر لا تكدره العلائق المادية، وفي نص كاليماخوس يوضح ذكره "مدى تأثير آراء الفيلسوف أفلاطون الخاصة بخلود الروح، وسُمُوّها، على أحد تلاميذه المحبين له. فلم ينتظر هذا المغرم بأفلاطون الموت كى يصل عن طريقه إلى نعيم الروح الأبدى، بل سعى إلى الانتحار؛ كى يحظى بخلود قصرت الحياة الدنيا عن منحه إياه" ولكاليماخوس كذلك أناشيد ذكر فيها وعدد وامتدح الآلهة التي كانت منتشرة في عصره، فالواضح أن المديح الديني له حضور كبير لدى الشاعرين، وإن اختلفت الأسباب لدى كل منهما، فالششتري عن تجربة روحية صافية، وكاليماخوس ربما كان يصدر في ذلك عن إرضاء للجمهور والحكام حتى لو كان غير مؤمن بذلك. أما الغزل فهو عند الششتري قد "استحال ، ومن نماذجه الخليلية: زَارني من أُحب قبل الصباحِ فَحَلالي تهَتُّكي وافتِضاحِي وسقاني وقال نم وتسلَّى ما عَلى مَن أحَبَّنا من جُناحِ فَأدِر كأس من أُحِبُّ وأهْوى فَهوى من أُحِبُّ عَين صَلاحِ لوْ سَقاهَا لميِّت عاد حَيًّا فَهي روحي وراحة الأرْواحِ لا تَلمني فَلست أصْغى لِعذلٍ لاَ ولو قُطِّع الحشا بالصياَح أما كاليماخوس فالغزل كان لديه ذا منحى آخر، إنه الغزل الحسي، بل الغزل بالمذكر، فلكاليماخوس قصائد "موجهة للصبية، وهي بحق تعد قمة هذا النوع الأدبي.