تمر بنا اليوم ذكرى رحيل الثعلب القسّامي، الرجل ذو الألف وجه، المهندس الذي أذاق العدو الإسرائيلي المرارة والألم، ففي مثل هذا اليوم، السادس من يناير من عام 1996م، تم استشهاد المهندس يحيى عيّاش، قائد كتائب القسام بالضفة الغربية، وأحد أشهر رجال المقاومة الفلسطينية في التسعينيّات من القرن الماضي. الميلاد والنشأة ولد يحيى عياش، في السادس من شهر مارس عام 1966م، في قرية رافات جنوب غرب مدينة نابلس في الضفة الغربيةالمحتلة، وحفظ القرآن في سنٍ صغيرة، وكان كثير الالتصاق بالمسجد، وعُرف عنه في طفولته الصغيرة الهدوء والخجل الشديدين، حتى أن عمّه يقول في هذا الأمر: " كان يحيى هادئًا أكثر من اللزوم، ولا يحب الاختلاط كثيرًا بغيره من أطفال الحي، حتى إنني كنت أعده انطوائيًا بعض الشيء". وتدور الأيام، ويظهر النبوغ المبكّر ليحيى، وخاصة في مادة الرياضيات، وأدّى بع تفوقه إلى دراسة الهندسة، حيث تخرج من جامعة بيرزيت في الضفة الغربية، من كلية الهندسة قسم الكهرباء. بداية النضال انضم يحيى في الجامعة للحركة الطلابية الإسلامية التابعة لحركة لحماس، وانتظم في صفوف الحركة، وأظهر من البذل والعطاء للقضية والوطن ما جعله يترقى سريعاً في سلك الحركة، وكانت بداية العمل العسكري له أثناء الانتفاضة الأولى عام 1990، وفي فبراير من عام 1994، وقعت مذبحة الحرم الإبراهيمي التي راح ضحيتها العديد من الفلسطينيين، مما جعل عياش يفكر في الرد سريعاً على هذه المذبحة الإسرائيلية بحق المصلين المسلمين. مع اسرته العمليات الاستشهادية أسس المهندس، يحيى عياش، كتيبة كبيرة من الاستشهاديين، حيث كان يقوم عياش بتجهيز العبوات الناسفة والمتفجرات، وتسليمها للاستشهاديين، ليقوموا بتفجير أنفسهم، في قلب إسرائيل رداً على مجازر الاحتلال الإسرائيلي. ومن هذه العلميات ما قام به مقاتلان من كتيبة الاستشهاديين، حيث فجرا نفسيهما في محطة للعسكريين الإسرائليين في منطقة بيت ليد قرب نتانيا؛ مما أدى إلى مقتل 23 جنديًا إسرائيلياً، وجرح أربعين آخرين، في هجوم وُصف أنه الأقوى من نوعه. "الشاباك" يطارد عياش طارد جهاز المخابرات الإسرائيلي "الشاباك" المهندس يحيى عياش لعدة سنوات، ولكنه أفلح طوال هذه المدة في الاختفاء عن أعينهم، حتى أن الإسرائيليين قد أطلقوا عليه اسم "الثعلب" وذلك لذكائه الشديد، وقدرته العجيبة على التخفّي. وقد عبر الجنرال جدعون عيزرا، نائب رئيس الشباك السابق، عن إعجابه بيحيى عياش، في مقابلة مع صحيفة معاريف الإسرائيلية، قائلاً: "إن نجاح يحيى عياش بالفرار والبقاء، حولته إلى هاجس يسيطر على قادة أجهزة الأمن ويتحداهم، فقد أصبح رجال المخابرات يطاردونه وكأنه تحد شخصي لكل منهم، وقد عقدت اجتماعات لا عدد لها من أجل التخطيط لكيفية تصفيته، لقد كرهته، ولكني قدرت قدرته وكفاءته". الخيانة واغتيال البطل وضعت أجهزة الأمن في إسرائيل، يحيى عياش على رأس قائمة الاغتيالات، وبالفعل أعدت خطة لاغتيال الشهيد، لكن الخطة كان لابد لها من عميل من قريب دائرة البطل، وكان هذا العميل هو كمال حماد، خال أسامه حماد الذي كان عياش مقيماً عنده في منزله. وباع كمال حماد نفسه بدراهم معدودة وخان وطنه، وأرشد الصهاينة عن مكان يحيى عياش، ولم يكتفِ بهذا فحسب، بل سلمه الصهاينة تليفون "محمول" مليء بالمتفجرات ليرسله إلى مكان عيّاش، ليتم اغتياله به. وبالفعل قام الخائن بتسليم الجهاز لأسامه حماد، رفيق يحيى، الذي لم يكن يعلم بخيانة خاله، وفي صباح الجمعة الخامس من يناير من عام 1996، اتصل والد الشهيد يحيى عياش على التليفون ليطمأن عليه بعد أن قُطع عمداً خط التليفون الأرضي، وعندما تأكدت المخابرات الإسرائيلية من صوت عياش، قامت بتفجير الجهاز عن بعد، ليلقى عياش ربه شهيداً على أثر هذا التفجير. وشيع عشرات الآلاف من أهل غزة جثمان الشهيد إلى مثواه الأخير، في جنازة مهيبة لم تتكرر كثيراً، حيث قرر يومها الكثير من الشباب الفلسطيني السير على خطا عياش، الذي قال في أحد الأيام: "بإمكان اليهود اقتلاع جسدي من فلسطين، لكني أريد أن أزرع في الشعب شيئاً لا يستطيعون اقتلاعه". وقد رثى الشاعر الفلسطيني محمد عبد الرازق أبو مصطفى، البطل يحيى عياش، في قصيدة تعبر عن مدى الحزن والأسى عم فلسطين بعد رحيل عياش، يقول في مطلعها: يا صوتَ حرّياتِنا والليلُ يقتلعُ الصّهيلْ *** يا وَهْجَ نيرانٍ تجودُ بها براكينُ الفصولْ في كلّ عيدٍ لانتفاضتنا على الدَّربِ الطّويلْ *** والآن يأتي عيدُنا لتَغيبَ في جَوْفِ الرّحيلْ