بعد رفضها استغلال جمهور الأوبرا لإنجاح حفلات مهرجان الموسيقى العربية في دورته ال23، ربحت د. إيناس عبدالدايم الرهان في الحضور المكثف لحفلات المهرجان في جميع أيامه. فجدير بالاحترام أن نرى ثمار مجهودات إحدى المؤسسات الثقافية الكبرى في مصر وهي دار الأوبرا المصرية، التي عكفت على تنظيم مهرجان الموسيقى العربية ال23 منذ شهور عديدة، لدرجة أن جميع حفلاته هذا العام كانت كاملة العدد قبل كل حفل بأيام في المسرح الكبير بالأوبرا، ومسارح الأوبرا الأخرى في القاهرة وفروعها بالمحافظات. نتحدث هنا عن واحدة من أجمل الحفلات التي جاءت ضمن المهرجان، وهو حفل الفنان السوري الكبير صفوان بهلوان، والذي قاد له الأوركسترا المايسترو الكبير سليم سحاب، والذي قدم الفاصل الثاني من الحفل، أما الفاصل الأول فكان يتضمن أوركسترا القاهرة السيمفوني بقيادة سحاب، ومشاركة العازفان ممدوح الجبالي الذي عزف على آله "العود"، وحسن شرارة الذي عزف على آله "الكمان". تضمن الفاصل الأول مؤلفات مصرية تنتمي للقالب الكلاسيكي هي كونشيرتو العود والأوركسترا لعمار الشريعي، وكونشيرتو المصري لعطية شرارة الذي كرمه المهرجان في هذه الدورة. سنبدأ بالمايسترو سليم سحاب، والذي يتميز بأداءه الرائع وهيبته في قيادة الأوركسترا.. جديته في العمل كعادته ابهرت الجمهور، واجبرت الأوركسترا على الألتزام، فهو قائد بكل المقاييس، يقف على المسرح وكأنه "الملك"، يدير أمور العازفين بحرفية شديدة تجعلهم يتلافون أي أخطاء فلا ينتبه لها الجمهور. أحترامه في أداءه يجعله يخرج عند دخول كل عازف ليمسك بيده عند دخول المسرح، فيظهر مدى روح التعاون والحب بين فريق العمل. كما أنه من شدة إعجابه بما قدمه الفنانين حسن شرارة وصفوان بهلوان قدم لهما، بتواضع شديد، مكانه في نهاية فقرة كل منهما ليقف كل منهما على منصة القيادة لتحية الجمهور، إلا أن بهلوان اعتز بأن يظل في مكانه. الفنان ممدوح الجبالي عزف مقطوعة موسيقية لعطية شرارة، كما عزف الفنان حسن شرارة موسيقى أغنية " أنت عمري" للراحلة أم كلثوم مع الأوركسترا، والذي أبهر الجمهور بأداءه الرائع حيث كانت نغمات الكمان الساحرة تغني وكأننا نستمع لصوت أم كلثوم بأداءها المميز، فهذا ما أوحى به العازف في تناوله للعرب والتلوين الموسيقي وبعض الوقفات المرحة التي كانت تستوجب وقوف الجماهير للتصفيق له بشكل حاد وكانت في المقدمة د. إيناس عبدالدايم التي ظلت بمفردها تصفق له وهي واقفة قرابة الخمس دقائق من شدة إعجابها بأداءه. شارك أيضا شرارة في الأوركسترا بالعزف المنفرد "الصولو" مع بعض الأغنيات التي غناها صفوان بهلوان في الجزء الثاني من الحفل ومنها أغنية "الفن". ويكفينا أن نقول أن الجمهور كان لا يريد الذهاب وطالب بهلوان بالمزيد من الأغاني، مما دفع بهلوان لمداعبه جمهوره والبوح لهم بأنه بين نارين، إحداهما الالتزام بوقت فقرته ببرنامج الأوبرا، والآخر هو إرضاء رغبة جمهوره، لكن في النهاية رجحت كفة الجمهور واستمرت الفقرة أكثر من نصف ساعة مضافة لموعد الحفل، كما استجاب لرغبة الجمهور في غناء أغنية "كل دة كان ليه"؛ حيث طالبه الجمهور بغناءها فور انتهاءه من كل أغنية في صياح شديد. ما يميز صفوان بهلوان الذي اختار أن يقدم أغاني الفنان الراحل الكبير موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب فقط دون غيرها، وألا يكون له أي نصيب في سوق الغناء التجاري، وفضل أن يقتصر جمهوره على عشاق الموسيقى العربية و"السميعة" فقط، أنه يلتزم بأداء عبدالوهاب دون التغيير أو تناول أسلوب آخر في الغناء كما يفعل الكثيرين ممن غنوا لعبدالوهاب، والغريب في ذلك أنه بالرغم من ألتزامه بالشكل والأسلوب الغنائي لعبدالوهاب حتى في مخارج الألفاظ، و"لدغته" بحرف "السين" الذي برع في اقتباس روحه الغنائية فيها، إلا أن صفوان له في ذلك بصمة خاصة ينفرد بها، تحمل شخصية متميزة في الغناء. وكان صفوان فرحا في أداءه على المسرح، وكأنه جاء لمواعدة معشوقته "دار الأوبرا المصرية" بجمهورها الجليل، فقال لهم: "الناس تحن حنينا جميلا إلى ذاكرتها التي تكونت على الأغنيات الجادة والتي تحترم عقولها وتحترم مداركها .. فعندما تتوفر الفرصة ترى الناس زرافات زرافات تذهب إلى الحجوزات لكي تستمتع بالموسيقى العربية". أما عن جمهوره فبادله نفس الشعور، وكانت تخرج أصواتا من حين لآخر من وسط الصالة لتبدي إعجابها به، أو إلقاء مقصوصة شعرية له، فكان الحفل يبدو كجلسة غرامية بين حبيبين، يظهر كل منهما إعجابه بالآخر. وغنى بهلوان في هذا الحفل: "الفن"، "في الليل لما خلي"، "ماكانش ع البال"، "عاشق الروح"، "كان أجمل يوم" و"كل ده كان ليه"، كما عزف على العود في أغلب أغنياته، ومن شدة تمسكه بأداء الراحل محمد عبد الوهاب، كان يتوقف عن العزف على العود أحيانا ليتفرغ للغناء كما كان يفعل عبد الوهاب في أفلامه القديمة. والفنان صفوان بهلوان الذي ولد في جزيرة "أرواد" عام 1953، منحته سوريا وسام "سيف دمشق"، ولقبته تونس بأفضل صوت عربي، كما فاز بمفتاح الإسكندرية الذهبي بمهرجان الأغنية لدول البحر المتوسط. يذكر أن الدورة الثالثة والعشرون لمهرجان الموسيقى العربية كرمت نحو أربعة عشر موسيقيا من رواد العمل الفني والموسيقي وهم: الموسيقار عطية شرارة، الإعلامي وجدي الحكيم، المطرب السوري صباح فخري، الموسيقار هاني شنودة، صانع الآلات الموسيقية نصر محمد توفيق، الموسيقار العراقي حسين قدوري، د. مايسة عبد الغني، الفنان فاروق الشرنوبي، الشاعر عمر بطيشة، السورية إلهام أبو السعود، الفنان محمد سالم، الإعلامي مصطفى الطوانس، وفنان الخط العربي مصطفى خضير.