يقف القطار في محطة تحمل اسمها، تجد فوجا من البشر يخرج من عرباته، منهم من يتكئ على آخر أو محمولا على الأيدي ومنهم أيضا من لا تبدو عليهم سمات المرض، ولكنه يمضي بكل حماسة أملا في اكتساب المزيد من الصحة، وكثير تخطى عربات المترو ليجد نفسه محبوسا داخل جدران متشققة.. ممر ضيق ينقلك من الحياة إلى الموت، غالبا ما تستقبلك جنازة على بوابتها. توجهت شبكة الإعلام العربية "محيط" إلى العيادات الخارجية التابعة لها.. لنجد معاناة المرضى تقابلنا على بابها.. تجولنا داخلها وسط الزحام الشديد " تشعر معه أنك داخل ملعب للكرة" وليس مكان يحتاج للهدوء التام "الرجاء الهدوء من أجل راحة المرضي" جملة لا تعرفها في «مستشفى الدمرداش» موضوعنا في هذه المادة. عملية فاشلة وروشتة بورق كراسة في استراحة عيادة العظام قابلنا "عبده" الذي لا يتجاوز عمره الخامسة عشر عاما يتحرك بصعوبة على عكاز، وبسؤال والدته التي تبدو على ملامحها البؤس والحزن الشديد، سردت لنا عن معاناتها في علاج ابنها قائلة: "ابني تعرض لحادثة وعمل عمليتين في رجله لكن العملية الثانية فشلت ومحتاج واحدة ثالثة وأبوه أرزقي على قد الحال". أضافت: "هناك طبيب أجرى العملية للمرة الأولى وآخر أجرى الثانية، هذا قانون المستشفى "الطبيب الموجود يقوم بالواجب" لا يهم الحالة التي يجب متابعتها من شخص واحد محدد حتي يتم علاجها بالطريقة السليمة ومع معاناة مرض فلذة الكبد يضاف ضيق الحال ومعاناة العلاج وغلاؤه، وقالت إنها تصرف العلاج من خارج المستشفى ليس من صيدلياتها المتوفرة. وتقول "أم عبده": "لكي يجد ابني الرعاية الكاملة من الطبيب يجب التوجه لعيادته الخاصة وهذا ليس بمقدوري"، مبينة مدى سوء المعاملة وطول الانتظار وقلة الاهتمام من قبل المستشفى للأمراض، وصل الحال إلى أن الدواء والملاحظات تكتب من الطبيب على ورقة من الكراس وليست "روشته" كالمعتاد! أدوية ليست متوفرة "حسبي الله ونعم الوكيل" بهذه الكلمات تفوه رجل مسن صادفنا رجل مسن ونحن في طريقنا إلى المستشفى، كان يبدو عليه الغضب، فسألناه عن السبب، رد سريعا من سوء المعاملة التي يلقاها، وقال إنه يعاني من "خراجين في بطنه" ويتحرك بصعوبة مع كبر سنه ليبحث عن الأدوية التي قد تكون بسيطة السعر في المستشفى مقابل الصيدليات الخارجية ولكن لم يجدها بل ويتعنتوا في معاملته ولم يرحموا سنه. "إدي البيض لأمك"! ومع الضجيج غير المقبول في المكان وتجول بائع الشاي، ارتفع صوت احدى الممرضات في مشاجرة مع مريضة لم تسمع اسمها حينما نادت عليه، واستوقفها أحد مشرفي المستشفى لعدم ارتدائها الزي الرسمي والكارنيه، فتحولت إليه بصوت أعلى "لسة جاية حالا" كمبرر مقبول، ولم ينتهِ الأمر بعد، بل صرخت في وجه ابن زميلة لها ممسكة بيدها "كيس" وكأنها في منزلها قالت له "إدي البيض لأمك ولو اتكسر هناخد فلوسه منها". وأبدت إحدى الممرضات المتواجدات أمام العيادات استيائها بسبب التفتيش على الزي والكارنيه الخاص بها، قائلة "أن الزي بيحررنا ومش بنحب نلبسه". فوضى وتزاحم على العيادات المختلفة ومشاجرات بين المرضى والممرضات لعدم الالتزام بالدور وحالة من الغضب بسبب توهان المرضى عن الأماكن المفترض التي تكون متاحة لهم وكثرة تحركهم بالرغم من تعبهم والذهاب لأكثر من طبيب. وفي لمحة طيبة عن الدمرداش قال بعض من المرضى إن مستوى الأطباء بها جيد ومعاملتهم حسنة متفقين على سوء التمريض والمعاملة منهم والفوضى في المكان. الاستقبال فوضى وتوتر تذكرة دخول قيمتها خمسة جنيهات هي تصريح لعبور بوابات الزيارة واستقبال الطوارئ، وبداخلها تجد "اليأس والأمل"، الدراسة والعمل متلاصقان، في البداية تجد مكتبات بيع ملازم وكتب وأدوات دراسة خاصة بطلاب طب وصيدلة وطب الأسنان وأمامها قسم الاستقبال وعنابر المرضى. يحمل قسم الاستقبال والطوارئ مشاعر القلق والخوف تظهر في وجوه الأشخاص المتراصين أمامه، وبدأت الحاجة أم محمد في السؤال عن حالة جارتها هل أفاقت من حالة الإغماء التي تعرضت لها جراء إصابتها بجلطة في الصباح الباكر، في الوقت الذي أبدى فيه أهل المريضة استيائهم من المعاملة والإهمال في حالتها مقارنة بإحدى المستشفيات الخاصة الكبرى التي تعالج الجلطات في ظرف ساعات حسبما قال أحدهم. لكن أم محمد أبت الاعتراض على الوضع في المستشفى واصفة إياه بأنه جيد، مؤكدة في حديثها ل"محيط" أنها حجزت فيها أكثر من 10 مرات لأنها أصيبت بجلطة كما تعاني من مرض باطني آخر رفضت توضيحه، وأن تعامل الأطباء مع المرضى به اهتمام ومتابعة "وكل حاجة هنا حلوة" على حد تعبيرها. موظفين لا يعرفون الرحمة في الوقت نفسه تدخل أقارب المريضة بالرفض بسبب كثرة طلبات الأطباء من عمل إشاعات وتحاليل قد تتطلب خروج المريض من الطوارئ لعملها خارج المستشفى وما في ذلك من إضاعة للوقت و"بهدلة للمريض" بالمقارنة مع المستشفيات الخاصة لكن ما يجبرهم على التعامل مع "الدمرداش" هو ارتفاع أسعار نظيراتها الخاصة. احتوت ساحات الانتظار أمام القسم على حكايات عدة فما بين مريض تم نقله في أقل من ساعة مرتين إحداهما داخل المستشفى لعمل إشاعة مقطعية وأخرى بسيارة إسعاف إلى خارجها حيث لم يتبين إلى أين توجه أو السبب في نقله فقد رفض أهله الحديث. وبصوت مرتفع بدأت فاطمة تذمرها على رفض موظفي الأمن إدخالها مع أختها المريضة التي تعاني من حالة تشنجات وإغماء، معللين ذلك بأنه مسموح بدخول مرافق واحد فقط مع المريض، فاطمة قالت إنها تعرف حالة أختها لأنها تتواجد معها عندما تأتي لها على عكس أمها التي لا تعرف بدقة ما يصيب ابنتها المريضة. وقالت فاطمة إن الموظفين هنا لا يعرفون الرحمة فوجود بجوار أختي فقط لشرح حالتها للدكتور لن يصيبهم بسوء لكنهم رفضوا، لتخرج هي وتنتظر على درجات السلم لعل جديد يحدث، بجوارها انتظر أحد المسنين الذي بدى متحفظا في الحديث أو وصف حالة المريض الذي أتى معه واكتفى بقوله إن الاهتمام هنا جيد ومعاملة "كويسة". "عايزين المريض يخدم نفسه" بالانتقال إلى داخل مبنى العنابر التي يرقد بها المرضى خلال فترة حجزهم بالمستشفى، قد ترى مشاهد متناقضة تماما بين من يتعامل مع المرض بضحك ومرح وسط أهله ومعارفه فبعضهم بدأ يجلس في الطرقات يتبادلون الحديث ومنهم من وقفت لتصلي وآخر نائم على مقاعد الانتظار وغيرهم ينتظرون بقلق وشغف نتيجة فحص الأطباء. مع صوت الشجار الذي لا ينتهي في هذا المكان نجد ممرضة "تهلل" في طرقات المستشفى بسبب إجازتها تجد آخر يرد عليها قائلا "الممرضات عايزين المريض ينزل يخدم نفسه". منى مريضة ملازمة السرير بقسم الأعصاب تتواجد في المستشفى منذ أسبوع وابنتها دنيا المقيمة معها على نفس سرير أمها المريضة لعدم توفر مكان لها، تحدثنا معها وقالت: "الأمن يأخذوا كل يوم 30 جنيه مني علشان بنتي تبقى معي"، وأطباء الامتياز بالمستشفى وصفوا لي أدوية أتعبتني؛ إلا أن الدكتور المعالج تدارك الموقف.. والخدمة إلى حد ما معقولة. "الأذى في كل مكان" أمام غرفة العمليات كان أهل أحد المرضى ينتظرون خروجه وفي الوقت نفسه وجدنا شاب يصرخ بسبب إهمال الأطباء لحالة شقيقه التي تستدعي عملية فورا بعد إصابته في عينه نتيجة حادث تعرض له قبل ثلاثة أيام؛ إلا أن طبيب يقول له شيء وآخر يغير توجيهات الأول. وخلال جولتنا فوجئنا بوجود مجموعة من الأهالي جالسين في ممر المستشفى على سرير، وعند سؤالهم قالوا أنهم في زيارة لأحد المرضى كما اشتكوا من سوء التمريض بل واثنوا على مستوى الأطباء، لكن ما كان متوافرا ومتاحا للجميع هو شبكة انترنت "واي فاي" دون كلمة مرور. أحد العاملين بالمستشفى أبدى ضيقه وعدم رضاه من إلقاء القاذورات ومخلفات المرضى بالطرقات قائلا "بكره أن الأطفال تيجي المستشفى بسبب الأذى في كل مكان"، أسانسير المستشفى الذي ينقل المرضى والزوار كان أشبه بمقبرة حشر بها أكثر من 15 فرد، ولا يضع الخروج من المستشفى النهاية أو الشفاء فقد يكون هروب ولجوء لأخرى أنظف أو لفحص ما. التمويل المشكلة الكبرى من جانبه قال الدكتور محيي الدين البنا أستاذ الجراحة بكلية طب عين شمس إن المشكلة التي تعاني منها المستشفى بالأساس هي مشكلة ضعف التمويل المقدم لها من قبل الدولة ما يجعل الطلاب والأساتذة والأطباء العاملين يتبرعون من أموالهم الخاصة في سبيل توفير بعض الإمكانيات على حد قوله. وأضاف أن المستشفى التي أنشئت عام 1931 تعالج آلاف المرضى وتقدم خدمات جيدة للمواطنين "الغلابة" ومحدودي الدخل، مضيفا "تستقبل المستشفى يوميا حوالي مائتي حالة وتجري عمليات لما يقرب من2000 حالة شهريا وما يعادل 25 ألف حالة في السنة" وأن المستشفى تجرى بها جراحات عامة ومتخصصة وجراحات ميكروسكوبية. وأوضح أن إمكانيات المستشفى قليلة جدا في حين أن الطب الآن يحتاج تكلفة عالية عالميا، وتابع "الأجهزة الجديدة كلها تأتي بجهود الأساتذة والمتبرعين وعلى الرغم من ذلك فلا يوجد عملية جراحية في العالم إلا وتجرى داخل مستشفيات جامعة عين شمس باستثناء عمليات زراعة القلب والرئة". وأكد أن نسب نجاح العمليات الجراحية عالية ومقبولة وأن حالات حدوث مشاكل بها استثناء، معتبرا أن مشكلة الأمن داخل المستشفى راجعة إلى سبب واحد وهو التمويل الذي يقيد عملية التعامل مع شركات أمن وزيادة عدد موظفيه لرفع مستوى الأمان داخل المستشفى. وفيما يخص المرضى قال إن انتظارهم قبل إجراء الجراحات يعود لقائمة الانتظار "مش بسبب الروتين" لأن الإقبال شديد ووفي ظل الوقت وغرف العمليات المحدودة فطبيعي أن تتكون قوائم انتظار. اقرأ فى الملف " ملائكة الرحمة وثوب العذاب في مستشفيات الصحة" * الإهمال الطبي في المستشفيات الخاصة.. طريق المرضى إلى الموت * أطباء وأخصائيون: تراجع دور وزارة الصحة فتح أبواب النصب على المرضى * أطباء مشاهير .. والمريض "ضحية" * «محيط» تتسلل وترصد الإهمال في مستشفى المطرية التعليمي * المستشفيات الحكومية قضت على المواطن ... و"العسكرية" الأمل الأخير لعلاجه ** بداية الملف