لم تكن ال5 سنوات الأخيرة في حكم الرئيس السوداني عمر البشير، عادية، إذ شهدت ملاحقة من المحكمة الجنائية الدولية للرجل المتهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في إقليم دارفور غربي البلاد، رغم نجاحه في حشد تأييد أفريقي لموقفه الرافض لولاية المحكمة. إلا أن مثول الرئيس الكيني أهورو كينياتا، أمام المحكمة في لاهاي أمس الأربعاء، في سابقة لم تحدث من قبل لرئيس دولة في المنصب، عقد موقف البشير، وقد يكسر الرفض الأفريقي للمحكمة، وربما يضع الرئيس السوداني وبلاده في "عزلة" خلال الفترة المقبلة، حسب مراقبين. مذكرة اعتقال بدأت قصة البشير والجنائية الدولية في 2009، حينما حررت المحكمة مذكرة اعتقال بحقه على خلفية تهم بارتكاب "جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية" في إقليم دارفور الذي يشهد نزاعا بين الجيش ومتمردين منذ 2003 خلف 300 ألف قتيل وشرد نحو 2.5 مليون شخص، حسب إحصائيات أممية، قبل أن يضيف قضاة المحكمة في 2010 تهمة الإبادة الجماعية للائحة التهم الموجهة للبشير. فيما رفض الرئيس السوداني الاعتراف بالمحكمة "المدعومة" من الاتحاد الأوروبي، ورأى أنها "مسيسة ومجرد أداة استعمارية موجهة ضد القادة الأفارقة"، ونجح في تسويق هذه الفكرة بحصوله على تأييد نادر من قمة الاتحاد الأفريقي في مدينة سرت الليبية في العام 2009 والتي قررت بالإجماع منع الدول الأعضاء من التعامل مع المحكمة. ولا تملك المحكمة شرطة لتنفيذ أوامر الاعتقال وتعتمد في ذلك على البلدان الموقعة على ميثاقها وهي 121 دولة 34 منها أفريقية. ومنذ ذلك الحين، اقتصرت زيارات البشير الخارجية على دول عربية وأفريقية حليفة واعتذرت بعض البلدان الأفريقية عن استقباله مثل جنوب أفريقيا ومالاوي والأخيرة تنازلت عن حقها في استضافة القمة الأفريقية في فبراير / شباط 2010 حتى لا تستقبل البشير لتفادي الضغط الغربي عليها. واشنطن والبشير ورفضت واشنطن في سبتمبر / أيلول 2013 منح البشير تأشيرة دخول إلى أراضيها للمشاركة في الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك. والولايات المتحدة ليست عضوا في المحكمة لكنها داعمة لها وسبق أن اتهمت الخرطوم سلاح الجو الأمريكي بمحاولة القرصنة على طائرة كانت تقل البشير من طهران إلى بكين في يونيو/ حزيران 2011. وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 2011، أصدرت محكمة كينية قرارا يلزم السلطات باعتقال البشير حال وصوله الأراضي الكينية، إلا أن البشير لم يسافر إلا هناك، ورغم ذلك اعتبر مراقبون خطوة المحكمة بأنها مؤشرا على تحايل الدولة الأفريقية على قرار قمة سرت، وقد تنتهج دولا أخرى نفس الأمر كمخرج مناسب للحكومات التي تعاني من ضغط غربي يصل حد منع المعونات عند استقبالها البشير دون اعتقاله. وفي يوليو/ تموز 2013 غادر البشير العاصمة النيجيرية أبوجا، قبل أقل من 24 ساعة من وصوله للمشاركة في قمة أفريقية بعد أن رفع ناشطون دعوى قضائية في المحكمة العليا لإلزام الحكومة باعتقاله. لكن الموقف داخل الإتحاد الأفريقي انقلب مرة أخرى لصالح البشير بعد إتهام المحكمة الجنائية للرئيس الكيني أوهورو كينياتا ونائبه وليام روتو بإرتكاب "جرائم ضد الإنسانية" لتدبيرهما أعمال العنف التي أعقبت انتخابات 2007، وخلفت أكثر من ألف قتيل. ووفر اتهام المحكمة لكينياتا وروتو دعما للبشير من دولة ذات نفوذ إقليمي مثل كينيا والتي نجحت في عقد قمة أفريقية في أكتوبر / تشرين أول 2013، خلصت القمة الأفريقية إلى إرسال مذكرة إلى مجلس الأمن الدولي تطالب بتعليق التهم الموجهة للرؤساء الأفارقة وعدم محاكمتهم أثناء ولايتهم الرئاسية. ولم يستجب مجلس الأمن لطلب القادة الأفارقة، فيما طلبت المدعية العامة للمحكمة الجنائية، فاتو بنسودا، من المجلس في يونيو / حزيران 2014، "اتخاذ خطوات ذات مغزى لإلقاء القبض على المشتبه بهم وتقديمهم إلى العدالة لأن العملية القضائية للمحكمة لا يمكن أن تتم من دون اعتقال". صدمة ووسط تنشيط الخرطوم لجهازها الدبلوماسي في القارة الأفريقية لعقد قمة خاصة لمناقشة العلاقة مع المحكمة الجنائية بعد رفض مجلس الأمن طلبهم، "صدمت" بمثول الرئيس الكيني أمام المحكمة، على حد قول محمد الأمين نوري أستاذ العلوم السياسية بجامعة الخرطوم. وقلل نوري في حديثه لوكالة "الأناضول" من قيمة عقد القمة لاحقا بالقول "مثول كينياتا أمام المحكمة خرق مبكر لاتفاق القادة الأفارقة ويفقد القمة أي تأثير لها في حال عقدها". وحول تأثير الخطوة على الرئيس البشير، قال أنها "تُفقد حكومته المناصرة الأفريقية وتضعها وحيدة في مواجهة المحكمة الجنائية وتزيد من عزلتها". ولم يستبعد أستاذ العلوم السياسية أن يكون مثول الرئيس الكيني أمام المحكمة "مدبر بالاتفاق بين الطرفين ما يعود عليهما بمكاسب، حيث تتم تبرئة الرئيس الكيني مقابل منح المحكمة مصداقية أكبر". ومضى قائلا :"محاكمة رئيس دولة في وزن كينيا التي تعد أحد أقرب الدول الأفريقية إلى الغرب، يفتح الطريق للمحكمة للذهاب إلى مدى أبعد من نطاق عملها الحالي، وترسل من خلاله رسالة لآخرين متهمين مثل الرئيس البشير، تفيد بأن بإمكانهم المثول أمامها بأمان للدفاع عن أنفسهم". فروق جوهرية في المقابل، استبعد آدم محمد أحمد عميد كلية العلوم السياسية بجامعة الزعيم الأزهري، مثول البشير أمام المحكمة، لعدة أسباب من بينها "الفروق الجوهرية بين طبيعة الجرائم التي يواجهها مقارنة بالجرائم التي يواجهها الرئيس الكيني". وأوضح في حديثه لوكالة "الأناضول" أن "الرئيس الكيني متهم على خلفية أحداث يقدر ضحاياها بألف شخص مقابل مئات الآلاف في حالة البشير". ومن بين الأسباب أيضا التي يحددها أحمد، "طبيعة النظام الديمقراطي في كينيا والذي يحتم على رئيسها إتخاذ موقف نبيل لصالح شعبه حتى لا يتضرر بفرض عقوبات كما حدث مع السودان ذو النظام الشمولي". ولفت آدم محمد أحمد إلى أن هناك مخاوف أيضا لدى قادة حزب المؤتمر الوطني الحاكم بأن "يفضي مثول الرئيس إلى إتهام شخصيات نافذة جديدة خلاف الثلاث المتهمين الآن مع الرئيس البشير". وتلاحق المحكمة الجنائية أيضا كل من وزير الدفاع عبد الرحيم محمد حسين، ووزير الداخلية السابق، أحمد هارون الذي يشغل حاليا منصب والي ولاية شمال كردفان (وسط)، بجانب علي كوشيب، أحد قادة المليشيات القبلية الموالية للحكومة في إقليم دارفور. وأشارت وسائل إعلام غربية في أوقات سابقة إلى أن مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية يملك أدلة إضافية ضد 51 مسؤول سوداني، دون تحديدهم. وختم محمد أحمد حديثه قائلا: "رغم الصدمة التي تعاني منها الحكومة السودانية بسبب مثول الرئيس الكيني أمام المحكمة إلا أن كل المعطيات تؤكد أنها لن تتعاون مع المحكمة رغم إفتقادها لمناصريها الأفارقة وعدم فاعلية الدعم العربي لها". جلسة تحضيرية وأمس، حضر الرئيس الكيني جلسة تحضيرية بالمحكمة الجنائية الدولية، دون أن يتحدث في الجلسة، واكتفى برد محاميه، ستيفن كاي، على الأسئلة التي وجهتها هيئة المحكمة. والإثنين الماضي، قال الرئيس الكيني في خطاب أمام البرلمان، بثته وسائل إعلام كينية، إنه سيعين نائبه ويليام روتو قائما بأعمال الرئيس في غيابه لتفادي وضع "سيادة أكثر من 40 مليون كيني أمام المحاكمة". وأوضح أنه لن يمثل أمام المحكمة بصفة موقعه كرئيس للدولة، لكن بصفته الشخصية لأنه تم توجيه اتهام إليه قبل أن يصبح رئيسا، ولا يحاكم بصفته رئيس دولة. واستطرد مضيفا: "ضميري مرتاح، وهو مرتاح وسيبقى إلى الأبد مرتاحا لأني بريء من كل الاتهامات الموجهة لي". وقبل أسبوع، تمسك 3 قضاة من المحكمة الجنائية الدولية بمثول الرئيس الكيني خلال جلسة تحضيرية بغد غد الأربعاء 8 أكتوبر/ تشرين أول الجاري تمهيدا لبدء محاكمته. وكان كينياتا طلب الشهر الماضي من المحكمة الجنائية الدولية السماح له بالتغيب عن هذه الجلسة أو المشاركة عبر الفيديو حيث كان يخطط للمشاركة في قمة إقليمية لمجموعة شرق أفريقيا، ستنعقد في دولة أوغندا يوم انعقاد الجلسة. ويواجه كينياتا اتهامات بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في خضم أعمال العنف العرقية التي اندلعت في كينيا بعد نتائج الانتخابات المتنازع عليها في ديسمبر/كانون أول 2007، حيث قتل أكثر من 1300 شخص في هذا العنف، في حين اضطر مئات الآلاف إلى ترك منازلهم والبحث عن ملجأ.