المفاضلة بين الدعم العيني والنقدي لرغيف الخبز! مكرم محمد أحمد سواء كانت نسبة الفقر في مصر في حدود20 في المائة من مجموع السكان, بما يعادل ثلاثة ملايين أسرة مصرية كما تقول تقارير البنك الدولي عام2005, أو أن الأمور تحسنت بعض الشئ لتصل النسبة الآن الي18 في المائة كما تقول بعض المؤشرات الخاصة للتعداد العام الأخير... تبقي قضية العدالة الاجتماعية ضمن أولويات الحكم الرشيد, حفاظا علي استقرار المجتمع وضمانا لوحدة النسيج الوطني, وصونا لحق كل مواطن في أن يتمتع بعائد التنمية التي جاوز معدلها7 في المائة, بما يساعد علي وصول ثمار التنمية الي هذه الفئات الأقل قدرة في صورة فرص جديدة للعمل تنمي دخول أفرادها, وتحسين متواصل لخدمات الصحة والتعليم التي زادت بما يفوق قدرة هذه الشرائح الأقل دخلا في المجتمع, أو في صورة دعم سلعي, يتجسد في بطاقة التموين التي يصل تكاليف دعمها الي ما يقرب من4 مليارات ونصف المليار جنيه, وفي أنبوبة البوتاجاز التي تصل تكلفتها الحقيقية الي ما يزيد علي17 جنيها وتبيعها الحكومة للمواطنين بسعر لا يصل الي أربعة جنيهات, الأمر الذي يكلف الخزانة العامة9 مليارات جنيه أخري. غير أن رغيف الخبز يظل أهم عناصر هذا الدعم السلعي وأكثرها كلفة, لأنه يشكل الغذاء الأساسي والمصدر الرئيسي لأكثر من37 في المائة من السعرات الحرارية لجموع المصريين الفقراء والطبقات المتوسطة الدنيا التي تستهلك كل يوم قرابة2,85 مليون رغيف, بمعدل ثلاثة أرغفة لكل مواطن, يتم انتاجها في أكثر من17 ألف مخبز عام وخاص تتوزع علي جميع أنحاء الجمهورية, تحتاج في العام الواحد الي6 ملايين طن من القمح المدعم تشكل نصف اجمالي احتياجات البلاد من القمح(12 مليون طن), الذي يتم توريده دقيقا الي المخابز في حدود160 جنيها للطن كي لا يتجاوز سعر الرغيف خمسة قروش, علي حين يصل سعر الطن من الدقيق غير المدعم الي1800 جنيه, الأمر الذي زاد من تكلفة دعم الخبز في غضون الشهور العشرة الأخيرة من6 مليارات جنيه الي15 مليار جنيه تثقل كاهل الخزانة العامة بأعباء ضخمة بعد الزيادات الأخيرة التي طرأت علي الأسعار العالمية للقمح. وبسبب هذا الفارق الضخم بين سعر طن الدقيق المدعم160 جنيها وسعره في السوق العادية1800 جنيه, أصبحت عملية انتاج رغيف الخبز, ابتداء من وصول الأقماح المستوردة الي الموانئ والأقماح المحلية الي شون التوريد الي خروج رغيف العيش من المخابز مرتعا واسعا لعمليات هدر واستنزاف واختلاس وسرقة, تنهش في هذا المال السايب باسم الدعم, تقوم عليها عصابات منظمة متخصصة في كل مرحلة من مراحل تداول القمح, ابتداء من خروجه من الصوامع حبا الي خروجه من المطاحن دقيقا, الي خروجة من المخابز أرغفة تكاد تكون عجينا لم تأخذ فرص التهوية الكافية, تتخطفها أيدي الجمهور الذي طال وقوفه في الطوابير أمام منافذ التوزيع.., وتثبت دراسات وتقارير مؤكدة أن حجم الفاقد المتسرب من دعم الخبز قبل أن يصل الرغيف الي المستهلك يتجاوز993 ألف طن من القمح والدقيق, تصل قيمتها الي مليار و182 مليون جنيه, تضيع هدرا بسبب فاقد النقل في شحنات المراكب, وفاقد التخزين في الصوامع والشون الترابية, والفاقد في وسائل النقل خلال عمليات تداول القمح وصولا الي المطاحن, وفاقد العمولات الضخمة التي تتربح منها شركات الصوامع والمخابز علي حساب المستهلك وفروق نسب الاستخلاص والرطوبة التي يتم التلاعب بها, اضافة الي الفاقد نتيجة تلاعب أصحاب المخابز وغياب الرقابة, وتحالف بعض مفتشي التموين مع بعض أصحاب المخابز, وسوء نوعية الدقيق وعدم استخدام الخامات الجيدة في صنع الخبز بسبب رداءة الخمائر والملح, ويزيد علي ذلك سوء التصرف في الرغيف بعد خبزه الذي يذهب نسبة غير قليلة من انتاجه علفا للحيوانات وغذاء لمزارع الأسماك, الي حد أن طن العيش الكسر يصل ثمنه الآن الي1250 جنيها.., وثمة تقديرات تنهض علي دراسات وتجارب وأبحاث تقوم علي العينة, تؤكد أن فاقد الدعم المتسرب من رغيف الخبز يكاد يصل الي30 في المائة من حجم دعمه, أي أن خمسة مليارات جنيه من جملة دعم الخبز تذهب هدرا الي جيوب عصابات تكدست بالمال الحرام علي حساب قوت الشعب. بعض أسباب هذا الانحراف يعود الي سوء تصرف الحكومة, التي تستورد أسوأ أنواع الأقماح من الدرجة الثانية لصناعة رغيف الخبز, التي يكثر فيها الضامر والتالف والمكسور من حبوب القمح, اضافة الي الشوائب والمواد الغريبة بنسب تتجاوز في معظم الأحيان5 في المائة بدواعي توفير الأسعار, لكن النتائج الأخيرة تؤكد أن حجم الفاقد بسبب سوء نوعية الأقماح يصل في العام الواحد الي99 مليون جنيه, وأن الخاسر في النهاية الخزانة العامة والمستهلك المصري. وبعض صور الانحراف الأخري يعود الي سوء توزيع حصص الدقيق علي المحافظات, الذي لا تحكمه أية رؤية شاملة أو علمية تقوم علي معلومات صحيحة عن عدد السكان والتوزيع الجغرافي ومتوسط الكثافة السكانية في كل منطقة, ومع الأسف لم يتحسن الوضع عندما فوض رئيس مجلس الوزراء قبل ثلاثة أعوام المحافظين بتوزيع حصص الدقيق وانتاج الخبز وتوزيعه, بل زاد الوضع سوءا واتسع نطاق الخلل ليشمل معظم المحافظات, وظهرت الطوابير أمام منافذ التوزيع والمخابز في أماكن عديدة.., وفي الجيزة علي سبيل المثال حيث يصل تعداد السكان الي خمسة ملايين و800 ألف نسمة, يستهلكون في الشهر أكثر من نصف مليون جوال من الدقيق لا يتساوي نصيب الفرد من الأرغفة علي جميع مستوي المراكز, وعلي حين يصل متوسط التوزيع الي3,1 رغيف للفرد في اليوم الواحد علي مستوي المحافظة, يرتفع التوزيع الي5,1 رغيف للفرد في مركز الجيزة, ويهبط في بعض المراكز الأخري الي حدود رغيف للفرد بسبب عشوائية توزيع المخابز وتدخلات أعضاء المجالس الشعبية والنيابية وضغوطهم المتزايدة علي لجان توزيع حصص الدقيق التي تعمل بصورة عشوائية بسبب عدم توافر البيانات والمعلومات الصحيحة التي يتم علي أساسها توزيع الحصص... ونتيجة لعشوائية التوزيع وغياب المعايير الواحدة والشفافية التي ينبغي تطبيقها علي جميع المحافظات, يتم تهريب نسب كبيرة من الدقيق المخصص لرغيف الخبز في أثناء نقل الدقيق من المطاحن الي المخابز, كما يتم تهريب كميات ضخمة من الدقيق خصوصا من مخابز القطاع العام الي السوق الخارجية, لأن حصص الدقيق لمخابز القطاع العام82 مخبزا بالقاهرة و42 مخبزا بالجيزة مفتوحة دون قيد بما يكفي تشغيلها علي نحو مستمر لا يقل عن20 ساعة في اليوم الواحد, بينما تؤكد حقائق الواقع أن معظم هذه المخابز لا يعمل بكامل طاقته الانتاجية, وفي مجمعات مخابز القطاع العام التي يعمل بها سبعة خطوط للانتاج لا تزيد الخطوط العاملة في أي منها علي ثلاثة خطوط فقط, الأمر الذي يستوجب السؤال عن مصير حصص الدقيق التي تصرف لهذه المخابز؟!. واذا كانت المخابز ذات الحصص الكبيرة تحقق عائدا مقبولا علي الإنتاج لأن المصروفات الثابتة محملة علي كمية انتاج أكبر, فإن المخابز ذات الحصص الصغيرة قد لا تحقق أي ربح علي الاطلاق لارتفاع تكلفة الانتاج عن سعر تسليم جوال الدقيق لهذه المخابز, وبسبب رفض الحكومة خفض سعر جوال الدقيق كي لا يزيد حجم الدعم تلجأ معظم هذه المخابز الي تهريب الدقيق لتعويض فارق السعر. وليس أدل علي اتساع حجم الانحراف في مجال المخابز من عدد المحاضر الذي وصل الي حدود180 ألف قضية مخابز في العام الواحد, يتعلق18% منها فقط بتهريب الدقيق برغم أنه ظاهرة واسعة الانتشار تكاد تكون هي أس الفساد والمصدر الأساسي لهذا الفاقد الضخم من حجم الدعم, وكما تؤكد مؤشرات محاضر المخابز تركيز أجهزة الرقابة علي المخالفات البسيطة المتعلقة بالمواصفات, تؤكد مؤشرات محاضر مخالفات المطاحن تركيز أجهزة الرقابة علي التافه من القضايا لسد الخانة بزيادة عدد المحاضر دون التركيز علي التلاعب والفاقد الضخم في سلعة الدقيق برغم الامكانات الضخمة لشرطة التموين التي تمكنها قدراتها المتعددة من تنظيم رقابة صارمة علي مدار الساعة توقف هذا الانحراف الضخم الواسع في عمليات التخزين والنقل والطحن والخبز, الذي يستقطع من قوت الشعب خمسة مليارات لصالح عصابات منظمة في كل من هذه التخصصات!.... والمؤسف أن جميع محاولات الاصلاح في أي من هذه الحلقات المتشابكة تبوء بالفشل الذريع نتيجة سطوة هذه العصابات وغياب الرقابة الفعالة, الأمر الذي تسبب في افشال تجربة انتاج رغيف الخبز المخلوط بدقيق الأذرة, الذي كان يمكن أن يوفر كميات من القمح المستورد تزيد علي مليون و200 ألف طن, لكن فساد الذمم أدي الي افشال التجربة برغم زيادة القيمة الغذائية للرغيف المخلوط بدقيق الأذرة... وما يزيد من سوء الوضع عشوائية نصوص القوانين واللوائح التي تحكم عملية القمح ومنتجاته, والتعديلات والاستبدالات والحذف والاضافة التي تتم علي هذه النصوص بمعدل يكاد يكون شهريا, فضلا عن التضارب الفج في هذه النصوص الذي يؤدي في النهاية الي عدم تطبيقها بدقة وشفافية, الأمر الذي يتطلب إعادة صياغة قانونية شاملة لكل التشريعات المتعلقة بعملية القمح والدقيق تسد هذه الثغرات المفتوحة كي يتسرب منها الفساد وتتبدد المسئولية. وما من شك في أن أي مفاضلة منصفة لا تحكمها الأفكار المسبقة أو الرؤي العقائدية والمذهبية, تستند الي حقائق الواقع اليومي الذي نعيشه ونتائجه الواضحة بين استمرار الوضع علي ما هو عليه في قضية الدعم العيني لرغيف الخبز, التي تشابكت وتعقدت علي هذا النحو, سوف تكون في صالح الدعم النقدي, الذي تؤكد نتائجه الأولية انه سوف يقلص30 في المائة من حجم الدعم تهدر علي هذا النحو المريع, وسوف يسد ابوابا بغير حصر لفساد واسع ينتشر في كل مراحل العملية خصوصا أن العلاج الجذري لكل هذه الأخطاء والسلبيات وسد جميع الثغرات التي سمحت بهذا الهدر المتعمد وغير المتعمد عمل صعب يكاد يصل الي حد الاستحالة, بعد أن تضخمت مصالح المستفيدين وأصبحوا عبئا يعوق أية جهود تستهدف الاصلاح. لكن مشروع الدعم النقدي برغم التسليم بأفضليته لأسباب واضحة يواجه مصاعب ومشكلات ضخمة لا تضمن نجاحه, بسبب غياب المعلومات الصحيحة وعدم توافر البيانات الدقيقة التي يمكن الاطمئنان إليها في تنفيذ خطوة مهمة علي هذا النحو, تتعلق برغيف الخبز الذي يمس مصالح جموع المصريين, ويكاد يكون الشاغل الرئيسي لوزارة بأكملها تحمل الآن اسم التضامن الاجتماعي مهمتها الاستخدام الأمثل للموارد والمخصصات المالية والعينية المقررة لدعم فئات المجتمع الأكثر احتياجا, فضلا عن أن رغيف الخبز يكاد يكون جزءا من الاهتمام اليومي لرئيس الجمهورية للاطمئنان علي وجوده بالوفرة المطلوبة في الأسواق, لأنه الغذاء الرئيسي للشعب المصري. وما يزيد من صعوبة استبدال الدعم العيني الذي يصل الي من يستحقه ومن لا يستحقه بالدعم النقدي, وجود20 في المائة من الشعب المصري خارج المنظومة الرسمية لقطاعات الدولة يمثلون فئات عديدة تعمل في الريف والحضر خارج أطر السجلات الرسمية, لا تملك الدولة بشأنهم أية معلومات دقيقة ولم تتم سابقا أية محاولات جادة لحصرهم علي نحو دقيق, يسكن معظمهم في العشوائيات خارج المدي الكبري يحاصرونها بأحزمة سكنية يتعايش داخلها الفقر والجريمة والتطرف يصعب الوصول إليهم كما يصعب اسقاطهم من حساب الدعم النقدي لأنهم يمكن أن يتحولوا الي قوة تدمير مخيفة! لقد كان الأمل أن تقدم تجربة بطاقة التموين الذكية التي جري تجربتها في السويس ووفرت نسبة23 في المائة من المقررات التموينية كان يصرفها البقال التمويني بأسماء أكثر من26 ألف فرد, يوقع بدلا عنهم باستلام المقررات التموينية لحسابه كل شهر, كان الأمل أن تقدم هذه التجربة بعد تعميمها في كل أنحاء الجمهورية الحجم المطلوب من المعلومات الدقيقة التي تحصر كل فئات المحتاجين الذي يساعد علي استبدال الدعم العيني للرغيف بالدعم النقدي دون مخاطرة, لكن مع الأسف لاتزال التجربة في بداياتها تحتاج الي أعوام ثلاثة علي الأقل كي يتم تطبيقها في كل أنحاء مصر, في الوقت الذي لا تملك فيه الحكومة أية نظم دقيقة للمعلومات خارج نطاق11 مليون مواطن يعملون في جميع مرافقها المدنية والعسكرية. وأظن أن التفكير في استبدال الدعم العيني بالدعم النقدي سوف يكون مخاطرة ضخمة يصعب أن تقدم عليها الحكومة قبل أن تكون علي يقين من أنها تملك معلومات حصرية دقيقة عن كل المحتاجين, الذين ينبغي أن يشملهم الدعم النقدي, وقبل أن يكون لديها نظام معلومات وبحوث اجتماعية مرن ومتطور وسريع علي مستوي الجمهورية يستطيع أن يضيف الي قوائم المستحقين مستحقين جدد وفق معايير واضحة معلنة وشفافة, ويحذف من قوائم المستحقين من تحسنت ظروفه الاقتصادية والاجتماعية, وأصبح قادرا علي الاستغناء عن الدعم النقدي لرغيف الخبز.., وقد يكون المطلوب الآن علي وجه التحديد تنشيط الحوار الوطني حول المفاضلة بين الدعم النقدي والدعم العيني لرغيف الخبز, وتكثيف الجهد لتطوير نظم معلومات وبحوث اجتماعية تحسن حصر فئات المحتاجين ضمانا لدقة المعلومات وشمولها قبل الإقدام علي تنفيذ هذه المخاطرة الصعبة. عن صحيفة الاهرام المصرية 1/12/2007