مصر والتاريخ.. إفريقيا وآسيويا عبده مباشر عند دراسة موقع مصر الجغرافي, يتوقف الدارسون كثيرا أمام مفارقة لافتة للنظر, فهي بالرغم من أنها دولة افريقية جغرافيا, فهي دولة آسيوية تاريخيا, فالجغرافيا لم تجعل طرق الاتصال بافريقيا طوال العصور التاريخية الأولي ميسرة أو سهلة بنفس القدر الذي يسرت به طرق الاتصال بآسيا. ففي حين لم يكن هناك طريق بري يربط مصر بقلب إفريقيا أو حتي بالدول الواقعة جنوبا, كان الطريق البري عبر سيناء يقودها الي وسط وغرب آسيا, أي ان سيناء منذ فجر التاريخ لعبت دور الجسر بين القارتين, وجعلت من مصر دولة إفريقية آسيوية, وفي نفس الوقت أدي البحر الأحمر دوره في ربط مصر بالمناطق الغربية بشبه الجزيرة العربية وبالساحل الشرقي لإفريقيا, ولم يتحقق ذلك إلا بعد اكتشاف المصري القديم لعلوم الملاحة البحرية وبناء السفن. هذا الواقع الجغرافي ربط مصر بقوة بغرب آسيا, وذلك قبل ان يظهر العالم العربي أو العرب الي الوجود, وإذا كان للاتصال بآسيا هذه الأهمية التاريخية, فإن هذه الأهمية تتضاعف وتزداد وضوحا إذا ما عرفنا ان الأديان السماوية الثلاثة قد عبرت فوق هذا الجسر المصري الآسيوي, وكانت مصر دائما طرفا رئيسيا وفاعلا في قصة التوحيد بفصولها الدينية الثلاثة, دون ان ننسي أن هذه الأرض قد شهدت ميلاد التوحيد في العصر الفرعوني قبل أن يبدأ عصر الرسالات السماوية. وعبر مصر ببعديها الآسيوي والافريقي, تدفقت معظم الهجرات العربية من آسيا الي افريقيا, وهنا يؤكد الباحثون ان الهجرات العربية الي افريقيا ومدغشقر عبر جنوب البحر الأحمر والمحيط الهندي, ظلت محدودة التأثير بعكس الهجرات التي شقت طريقها عبر سيناء, فهذه البحيرات هي التي تمكنت من نشر اللغة العربية في مصر وشمال افريقيا, وقد ارتبط هذا الانتشار بنشر الاسلام, أي بعد وصول الجيوش العربية الي مصر أولا ثم الي شمال افريقيا. وهنا يجدر بنا ان نشير الي أن مصر لم تتحدث باللغة العربية إلا بعد مرور نحو200 عام علي دخول الجيش الاسلامي بقيادة عمرو بن العاص عام642 ميلادية, وكان ذلك في عصر الخليفة المأمون. وتوضح كتب التاريخ أن كل الغزوات التي استهدفت مصر قد أتت عبر سيناء, فيما عدا غزوات محدودة أتت من الغرب كالليبيين في العصر الفرعوني, والفاطميين في العصر الاسلامي, أو من الجنوب كالنوبيين والأحباش في العصر القديم, ولا يمكن ان نتبين أهمية آسيا بالنسبة لمصر أو مصر بالنسبة لآسيا إلا إذا عرفنا أن اللغة الهيروغليفية, لغة مصر القديمة, هي أصل اللغات التي ظهرت في غرب آسيا كالنبطية والفينيقية, كما أنها أصل اللغة القبطية أو هي اللغة القبطية بحروف لاتينية, وأصل اللغة الاغريقية. ومن الملاحظ في هذه العلاقة, أن ارتباط مصر بالمناطق الشمالية الغربية للقارة الآسيوية أقوي من ارتباطها بالمناطق الجنوبية, وما ذلك إلا لأن الطريق الأساسي الي آسيا هو الطريق الساحلي الذي يمر بالقرب من ساحل البحر المتوسط الشمالي, والشمالي الشرقي, والمؤدي تلقائيا الي منطقة الشام بشرق البحر المتوسط, في حين أن الاتجاه جنوبا يتطلب تغييرا حادا في الاتجاه, بالاضافة الي اللجوء لعملية التفاف طويلة. ونتيجة لهذا كانت فلسطين والشام ملجأ أو منفي لمصريين كثيرين خلال فترات الاضطراب والمحن والأزمات. وفي هذه المنطقة استقر كثير من المصريين الذين ذهبوا اليها مقاتلين خاصة خلال فترة حكم محمد علي باشا طوال النصف الأول من القرن التاسع عشر. وإذا ما توقفنا أمام غزو الهكسوس لمصر واحتلالهم لها, باعتباره الغزو الأول والاحتلال الأول لمصر الذي دام نحو400 عام, سنتبين أن الشعب المصري خاض أول حرب تحرير في التاريخ, وبعد نجاح كل من سفن رع وكامس وأحمس في تحرير مصر, بدأ الفرعون المصري يتطلع لتأمين الحدود الشرقية, وتحول الأمر الي بناء امبراطورية مصرية حدودها آسيا الصغري في الشمال الغربي والرافدين في الشمال الشرقي. وخلال عصور الانهيار, وسطوع نجم الامبراطورية الفارسية, تقدمت جيوش الفرس لتحتل مصر, بعدها وصلت جيوش الاسكندر ليبدأ عصر الاحتلال اليوناني, الذي يفتح الباب لعصر من الاحتلال الروماني ولا ينتهي هذا العصر إلا بوصول الجيوش العربية الاسلامية عام642 ميلادية. وتتحول مصر الي ولاية, تستقل بأقدارها أحيانا مجموعة من الحكام الأغراب الي أن تقع في أيدي المماليك القادمين من مناطق آسيوية. وما إن تشرق شمس الامبراطورية العثمانية حتي تتطلع الي مصر, ويبدأ عصر الاحتلال العثماني عام1517. وتحت الراية العثمانية يبدأ عصر محمد علي عام1805. طوال هذه العصور كانت القارة الآسيوية تلعب دورها في تاريخ مصر في حين ظل الدور الافريقي محدودا بمحدودية دور الغزاة الذين انطلقوا من الأراضي الافريقية. كما ان الفراعنة الذين قرروا التوسع في آسيا لم يقرروا التوسع في افريقيا بنفس القدر. وعبر البحر الأحمر وصلت مصر الفرعونية الي بلاد بونت الصومال, والي مناطق محدودة في الأراضي الواقعة جنوبا. أما في العصور الحديثة فقد تطلع محمد علي ومن بعده إسماعيل الي افريقيا خاصة السودان والساحل الشرقي لافريقيا. وقبل ان تهب رياح الاستقلال علي القارة الافريقية في ستينيات القرن الماضي, لم تكن هناك سوي أربع دول مستقلة هي مصر واثيوبيا وجنوب افريقيا وليبيريا. ولم يكن ممكنا أن يتحقق الاستقلال لدول القارة دون مشوار طويل من الكفاح والنضال والتضحيات, وإذا كان المشوار يعتمد علي القوي الوطنية في هذه الدول بشكل أساسي, فإنه بالضرورة يتطلب دعما ومساندة خارجية مادية ومعنوية, وفي هذا المجال قامت مصر بدورها, بل كان لها الدور الأكثر بروزا, فلم يكن متوقعا أن تساند دولتا جنوب افريقيا أو ليبريا قوي التحرر الوطني, وكنتيجة منطقية دفعت مصر وشعبها ثمن هذا الدور من رخائها واستقرارها ولم يكن اشتراك فرنسا في العدوان الثلاثي عام1956 في جانب كبير منه إلا من أجل تأديب مصر علي دورها في مساندة الثورة الجزائرية, والأخطر أن فرنسا كانت الدولة التي ساعدت إسرائيل علي بدء مشروعها النووي. وكان هذا الدور أفضل تعبير عن افريقية مصر, رغم انها بحكم موقعها في الطرف الشمالي الشرقي للقارة تعد الاقرب الي قارة آسيا والأبعد عن مناطق قلب إفريقيا. وقد أدت حركة التاريخ وتطور وسائل المواصلات والاتصال الي بناء وجود مصري مؤثر في جنبات القارة الافريقية, وكان النيل هو العامل الأهم في بناء وتطوير علاقات مصر الافريقية. وإذا كانت منطقة جنادل النيل جنوبأسوان قد وقفت حائلا دون ابحار المصري القديم جنوبا وتطوير علاقات مصر الافريقية بدلا من اقتصارها علي الصومال والسودان والحبشة وليبيا, فإن النهر الآن يشكل الرابطة الرئيسية التي تربط بين كل دول الحوض. وإذا كان السودان يمثل قلب البعد النيلي لمصر فإن هضبتي الحبشة والبحيرات هما أرض منابع النيل. وبصورة أخري, فإن واقع مصر الجغرافي يقوم بدوره في كتابة أبواب رئيسية من تاريخ مصر المعاصرة. عن صحيفة الاهرام المصرية 7/10/2007